الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

احتفالية المتحف القبطي علامة مضيئة على ثراء الثقافة المصرية

المتحف القبطي
المتحف القبطي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تشكل الاحتفالية الحالية بمناسبة مرور 108 أعوام على افتتاح المتحف القبطي رسميا في القاهرة، علامة مضيئة بقدر ما هي دالة على مدى ثراء الثقافة المصرية. ويعكس الاهتمام الواضح في الصحف ووسائل الإعلام بهذه الاحتفالية الثقافية حقيقة أن العصر القبطي يشكل جزءا عزيزا من التاريخ الثقافي لمصر الخالدة، كما تشكل الكنيسة المصرية قلعة من قلاع الوطنية المصرية. 
وإذا كانت الثقافة تعني في أحد أبعادها المتعددة ممارسة أي فعل يومي على نطاق واسع بطرق وأشكال لا نهائية فلعلّ الاحتفالية الحالية في المتحف القبطي تجسد ثقافة التسامح والتنوع الخلاق ومعنى الإخاء وتلاوين المحبة بين جميع المصريين في نسيج وطني واحد.
ووسط مشاركة فاعلة لوزارتي الثقافة والتربية والتعليم تتضمن احتفالية المتحف القبطي عروضا فنية وتنفيذ نماذج فنية لبعض القطع الأثرية بالمتحف وافتتاح قاعة عرض متحفي جديدة، حسبما أوضحت مدير عام المتحف جيهان عاطف. 
تأتي هذه العروض الفنية في المتحف القبطي، فيما صدر كتاب لافت بعنوان "فن الإنشاد الديني" تناولت فيه المؤلفة مروة البشير هذا الفن عبر مسيرة التاريخ المديد لمصر منذ المصريين القدامى مرورًا بالعصر المسيحي، حيث اقترن هذا الإنشاد بالموسيقى والترنيم، ووصولا للإنشاد الديني بعد الفتح الإسلامي حيث تطور هذا الفن بمدارس أبدعها المصريون وباتت علامة حضارية مصرية في فن الإنشاد. 
ويعد المتحف القبطي في القاهرة أكبر متحف في العالم للآثار المصرية في العصر القبطي، وهو تحفة معمارية من روائع العمارة القاهرية وجدد عدة مرات، أهمها عندما تطويره بجناحيه القديم والجديد وافتتح بعد التجديد في عام 1984 مع "الكنيسة المعلقة" في مصر القديمة، كما جدد في عام 2006 وجرى الربط "بممر" بين جناحيه القديم والجديد، فيما توزعت مقتنياته على 26 قاعة مع تقسيمها نوعيا إلى 12 قسما. 
وكانت رئيس قطاع المتاحف بوزارة الآثار إلهام صلاح الدين قد افتتحت، أمس الأحد، المعرض المقام في المتحف القبطي بعنوان: "من روائع الفن القبطي" فيما يختتم غدا الثلاثاء ليشكل جهدا ثقافيا جديدا في الاهتمام المستمر بالتراث القبطي.
كما افتتحت إلهام صلاح الدين معرضا آخر يستضيفه متحف الفن القبطي الواقع في "مجمع الأديان"، يقام بالتعاون مع كلية التربية الفنية بجامعة حلوان بعنوان "الاستلهام من التراث"، ويلقي مدير عام صيانة وترميم آثار ومتاحف القاهرة الكبرى الدكتور مجدي منصور، اليوم الاثنين، محاضرة بعنوان "المتحف القبطي: الإنجازات والتحديات".
والمتحف القبطي الذي أسس عام 1908 وافتتح رسميا عام 1910 داخل "حصن بابليون" في منطقة مصر القديمة بالقاهرة ينقسم لجناحين ويضم نحو 16 ألف قطعة أثرية قبطية تتوزع على عدة أقسام، من بينها "قسم الأحجار والرسوم الجصية"، و"قسم تطور الكتابة القبطية والمخطوطات"، و"قسم الأقمشة والمنسوجات"، و"قسم العاج والأيقونات"، و"قسم الأخشاب"، و"قسم المعادن"، و"قسم الفخار والزجاج".
ولن يخفى مغزى حقيقة تاريخية في سياق قصة المتحف القبطي تتمثل في أن من تصدروا قائمة الاكتتاب لإقامة هذا المتحف كانوا من المسلمين وفي مقدمتهم "الأمير حسين كامل الذي اصبح فيما بعد السلطان حسين كامل". 
وكذلك لن يغيب مغزى أن المتحف القبطي يضم بين مقتنياته "مسرجة من البرونز مقبضها على شكل الهلال والصليب ويرجع تاريخها للقرن الثالث عشر الميلادي إلى جانب العديد من المقتنيات التي تحمل مؤثرات فنية اسلامية".
وفيما يقود الأزهر الشريف على مدى أكثر من ألف عام الفكر الإسلامي المعتدل ويشكل بحق أحد معالم الهوية المصرية وقلعة منيعة للدفاع عن قيم الثقافة والحضارة الإسلامية السمحاء يؤكد الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف أن "الشعب المصري بكل أطيافه ومكوناته نسيج واحد يستعصي على التمزق والفرقة". 
وهكذا أيضا يقول مثقف مصري كبير هو الكاتب والشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي أن المسيحيين في مصر ليسوا أقلية، موضحا أن "العامية المصرية هي ثمرة اللقاء بين العربية الفصحى والمصرية القبطية"، كما أن "الشهور القبطية هي الزمن الذي يحياه الفلاحون المصريون والأعياد والموالد المسيحية والإسلامية ليست مجرد أسماء ومناسبات ولكنها ثقافة وطنية جامعة".
كما يلفت أحمد عبدالمعطي حجازي لحقيقة تاريخية تتمثل في أن "الكنيسة المصرية بعقيدتها وكيانها المستقل كانت رمزا نبيلا من رموز الوطنية المصرية. مضيفا أن المسيحيين من المصريين "ركن أساسي من أركان هذا المجتمع، وبدونهم لا تكون مصر هي مصر التي نعرفها ونحبها وننتمي إليها ولا يكون المصريون بدونهم أمة عريقة لها تاريخها الحافل ولها مستقبلها الذي لا بد أن يكون امتدادا طبيعيا لماضيها". 
والكنيسة الأرثوذكسية العريقة منذ نشأتها بالإسكندرية في القرن الأول الميلادي باتت حاضنة للوطنية المصرية وقوة من القوى الفاعلة في صياغة "شخصية مصر" وهويتها الثرية والمتعددة المستويات بتراكمات حضارية غنية. 
وبذلك فعندما نتحدث عن المصريين ممن يدينون بالمسيحية، فالحديث يكون عن مكون مصري أصيل بكل ما تعنيه الكلمة حتى إنه لا يجوز الحديث عما يسمى "عنصري الأمة المصرية لأن المصريين في الحقيقة والتاريخ والواقع عنصر واحد"، كما يؤكد الكاتب والشاعر الكبير أحمد عبدالمعطي حجازي.
وللكاتب الراحل أنيس منصور الذي قضى في الحادي والعشرين من أكتوبر عام 2011 كتابات دالة عن الدور الثقافي لبعض الأديرة في القاهرة مثل "الدير الدومنيكي" الذي كان يتردد عليه حيث ارتبط بعلاقة وثيقة "بالأب قنواتي" الذي يعتبره أحد أساتذته ووصفه بأنه كان "نموذجا للصفاء والرواء في الوجه والفكر والسماحة والأستاذية". 
ومن هنا فمن الطبيعي أن يحظى المتحف القبطي في القاهرة باهتمام المثقفين المصريين والمؤسسات الثقافية الكبرى في مصر وذات الطابع العالمي مثل مكتبة الإسكندرية التي نظمت عبر برنامجها للدراسات القبطية محاضرة في الرابع من فبراير الماضي للباحث الفرنسي جوليان أوبير حول تاريخ هذا المتحف المصري العريق وبداياته.
وفي مقابلة صحفية قال مدير مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية الدكتور لؤي السعيد: إن المركز أطلق بالتعاون مع الكلية الإنجيلية بالعباسية "دبلومة التراث العربي المسيحي" وهي خطوة تنسجم مع حقيقة أن "المسيحية العربية" على وجه العموم جزء أصيل في تاريخ وذاكرة الأمة العربية.
وفيما اقترنت البدايات التأسيسية للمتحف القبطي في القاهرة بأسماء ثقافية مصرية وأجنبية مثل مرقس سميكة والعالم الفرنسي الشهير "ماسبيرو" ونشر أول دليل لهذا المتحف عام 1930 فإنه يضم مخطوطات تعود لآلاف السنين.
ومكتبة المتحف القبطي تضم آلاف المخطوطات التاريخية، وهي مزودة بوسائل الحماية من عوامل كالرطوبة مع ضبط درجات الحرارة كما يضم المتحف برديات مهمة مثل "برديات نجع حمادي" فيما تغطي "مشربيات" بديعة الحوائط الخارجية لهذا المتحف المصري بين جناحيه القديم والجديد.
وأشار الأستاذ في كلية اللاهوت الانجيلية الدكتور وجيه ميخائيل إلى أن نحو عشرة آلاف مخطوطة من التراث العربي المسيحي موزعة بين المكتبات والمتاحف والكنائس وكليات اللاهوت. معتبرا أن هناك حاجة "لتجميع وتصنيف وتحقيق هذا التراث". 
وواقع الحال أن مرقس سميكة الذي أقيم تمثال نصفي له على قاعدة رخامية قبالة المدخل الرئيسي للمتحف القبطي باعتباره أول مدير لهذا المتحف كان أيضا في وقت مبكر من القرن العشرين رئيسا للجنة المسئولة عن حفظ الآثار اليهودية والمسيحية والإسلامية وعُرف بشغفه الأثري واهتماماته الثقافية في حقل الآثار والتاريخ.
وإذا كان المصريون يبرهنون دوما على صدق مقولة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية الراحل البابا شنودة: "إن مصر وطن يعيش فينا"، فإنهم يتفقون أيضا مع البابا تواضروس الثاني في اطمئنانه بشأن "مستقبل مصر ذات التاريخ والحضارة وصاحبة أول حكومة مركزية تجمع كل المصريين" فيما كانت مصر وما زالت مكانا دالا على معنى التنوع وتجلياته الإنسانية.
إنه واقع مصري قد يقدم إجابة واثقة لتساؤلات قلقة لمثقفين حول العالم مثل الكاتبة الأمريكية آنا هولمز التي راحت تتأمل أحوال بلادها والعالم لتبدي في طرح بجريدة نيويورك تايمز شكوكا عميقة حول ما إذا كانت كلمة "التنوع" بكل ما تنطوي عليه من معنى ومفاهيم قد باتت مجرد "كليشيه" أو "تعبير مبتذل بتكرار ينكره الواقع" وربما "مجرد تعمية لفظية رقيقة لواقع إنساني معاصر ينضح بالتعصب".
والتنوع البناء في مصر لا يتعارض مع ملامح الهوية الواحدة للمصريين حيث "التنوع في إطار الوحدة" دون أدنى افتعال أو تلفيق، وهكذا فمن الطبيعي أن تشهد مصر بعد غد الأربعاء، أي غداة اختتام احتفالية المتحف القبطي بالذكرى الـ108 لتأسيسه، احتفالية ثقافية أخرى بمناسبة "يوم التراث العالمي"، وأن يستعد "شارع المعز في قلب القاهرة الفاطمية" لهذه الاحتفالية التي تفتح فيها كل المواقع الأثرية المسجلة على قائمة التراث العالمي والمتاحف الأثرية مجانا للمصريين والعرب. 
إنها ثقافة مصرية من نسغ النيل والوجوه الطيبة واتساق الزمان والمكان وتناغم عذوبة الأذان مع أجراس الكنائس في شوارع ودروب من ضياء.. إنها مصر التي باركها السيد المسيح فيما أكد سيدنا ونبينا محمد أنها "كنانة الله في أرضه، من أرادها بسوء قصمه الله".