الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: شخصية العاهرة في الأدب المصري.. الضرورة والإدانة (6)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال.


«صديقة الطلبة».. أشهر «بائعة هوى» عرفتها مصر

سليمان فياض يناقش فى «الشرنقة» الحرمان الجنسى لدى الأزهريين

فى قصة سليمان فياض: «الشرنقة»، تنفرد العاهرة ليلى بخوض تجربة استثنائية غير مسبوقة، فهى لا تمارس نشاطها الجنسى فى الأماكن التقليدية المألوفة، بل إنها تتورط فى الذهاب إلى عنبر إقامة طلاب المعهد الدينى فى الزقازيق بصحبة الشيخ سعيد، وترضخ بلا إرادة لمضاجعة ثمانية من زملائه، وتنجو بالمصادفة القدرية من الزبون التاسع!

التعامل مع العاهرات ليس فعلا استثنائيا نادرا بالنسبة للطلاب الأزهريين، والحرمان الجنسى ظاهرة شائعة بينهم ويتم التنفيس عنها بوسائل شتى. الشيخ سعيد، ابن العمدة، واحد من هؤلاء الطلاب المحرومين المحاصرين بالكبت، وسلواه الوحيدة فى تربية دود القز!

خضراء الدمن

على شاطئ بحر مويس، يلتقى سعيد بامرأة يفوح منها عطر أنثوى نفاذ: «ترتدى ثوبا فضفاضا أسود، تحيط بأكمامه، وذيله إلى الركبتين، كرانيش دائرية من قماش الثوب ولونه. وعى أن وجهها، وراء الشيفون الأسود الشفاف، جميل جدا، بيضاوى، ومشرع الأنف، وواسع العينين. تردد، ثم عاد ينظر نحوها ويخالسها النظر. رآها وقد كشفت وجهها، تنظر نحوه بعينين ملونتين، خضراوين، طويلتى الأهداب. وكانت تبتسم».

العطر والملابس والتجاوب بالابتسامة، علامات دالة تشير إلى عاهرة محترفة تبحث عن صيد. كل ما فيها مثير يدفع إلى الاقتراب والتواصل، ويوقن الطالب الأزهرى الشاب أنها تنتظر مبادرته. تنظر إلى النهر وتخالسه النظر: «لم يجد الجرأة للخطو نحوها، فانثنى متكئًا بساعديه على سور النهر، ينظر مثلها إلى النهر، ويخالسها النظر، والبسمة. أحسَّ بعطرها يقترب منه. أحسَّ بذرات جسده ترتجف. خشى أن تتجاوزه وتمضى. وسمع صوتها يقول:

- مكسوف..».

امرأة محترفة ذات تجارب وخبرات، فى مواجهة شاب غر مرتبك، فلا غرابة أن تقترب وتبادر وتسعى إلى إزاحة حواجز الخجل وهواجس الاضطراب. تقول له هامسة:

«- يا دمك، علشانك حلو.

لم يرد: فكيف يرد وهو فى داخل كاكولته ينتفض. قالت له:

- يا سمَّ. مالى؟ وحشة؟

كاد أن يغضب ليدفع عن نفسه الفتنة. قالت له محتجة:

- علشانك لابس عمة؟ والا علشانى لابسة أسود، مش قد المقام يعني.

لم يرد، فسكتت، ثم عادت تهمس:

- لو شفت اللى تحت توبى الأسود، حاتغير رأيك؟».


لا شك أنها العاهرة الأولى التى يواجهها سعيد بشكل مباشر، لكنه لا يجهل ما يُقال عن عالم الدعارة ونسائه، والفضل لزملاء الدراسة وحكاياتهم: «فكر عندئذ أنها واحدة من نساء «أبوكبير»، نزلت الزقازيق، مثل أخريات، بحجة ذهابها لزيارة أختها، أو طبيب الأسنان. حكى له رفاق المعهد، فى ليالى المذاكرة الجماعية، فى شهر أبريل، حكايات عن مثلها من خضراوات الدمن».

«خضراء الدمن»، فى الحديث المنسوب إلى الرسول، هى المرأة الحسناء فى المنبت السوء، والمصطلح الشائع بين طلاب المعهد يبرهن على وفرة تجاربهم مع العاهرات دون نظر إلى العلم الدينى الذى يتلقونه، ذلك أن علومهم هذه لا تنفى إنسانيتهم ولا تؤمم غرائزهم.

يندمج سعيد فى المشهد، والفضل لجسارة المرأة المحترفة وقدرتها على الاقتحام وبث الطمأنينة، وهى التى تسأله عن اسمه قبل أن تقوله ضاحكة:

- واسمى ليلى. يعجبك.

تمتم فى سره: ليلى. وشك من صوتها أن هذا هو اسمها. وبدا له أنها تسخر منه».

أغلب الظن أن الاسم ليس صحيحا، فهكذا العهد بالعاهرات المحترفات، لكن فكرة السخرية من سعيد ليست واردة، ذلك أن الأمر لا يتعلق به ويمثل ما يشبه الطقس الشائع فى عالم الدعارة. قد تكون المهنة مقززة جديرة بالاحتقار والاشمئزاز، لكن ليلى فى حوارها مع الشيخ الشاب تقول كلمات بسيطة تنم عن فلسفتها فى الحياة: «اضحك. عيش لحظتك. يمكن ما نشوفش بعض تاني».

لا شيء عن ليلى إلا أنها مطلقة من «أبوكبير»، والتفاصيل غائبة عن دوافع احترافها وملامح حياتها. فى جلستها مع سعيد عند محطة الكهرباء، تطلب الترمس والفول المتبل والحلبة و«زعازيع قصب»، وإذ يستنكر الأزهرى الشاب طلبها الأخير، تقول له:

- مصَّها حلال. اسأل زمايلك.

قال لها بغيرة:

- زمايلي.. تعرفى مين من زمايلي؟

قالت له:

- ستات أبوكبير ياما بيحكوا».

الأزهريون بشر فى نهاية الأمر، والالتزام الدينى الصارم ليس ممكنًا، فهل يمكن لسعيد أن ينجو من التجربة ويحلق بعيدًا منفردًا متطهرا؟! الإجابة بالنفي، و«الزعازيع» التى يمصها تسكره فيتحرر من مخاوفه وخجله، ويندمج مع ليلى مثل صديقين قديمين. يقول لها بخفة:

- تيجى نطير علشان ما نحسش بالكهربا.

قالت له ضاحكة، وهى تهز يده:

- تيجي..

وتوقفت، ثم قالت:

- بس مين فينا فوق، ومين تحت، بياخد بإيد التاني».

يدرك سعيد بعد تحرره واندماجه فى أجواء المرح أن القضاء قد حمَّ، وتتبخر كل قدرة له على الصمود أمام العاهرة الجميلة المثيرة التى تتحمس لاستكمال المغامرة شريطة تدبير المكان المناسب. قبل أن يستكمل جملته لتحديد المكان الذى يعنيه، تقاطعه:

- ما تقولش لوكاندة. أنت حاتكون فى أوضه وأنا فى أوضه.

قال لها:

- وماله؟ حانتصرف..

قالت له:

- بس أنا ماعنديش بطاقة. حاتقول إيه: أختك، والا مراتك».

لا تتحمل ليلى مسئولية تدبير المكان الذى تمارس فيه العمل، وسعيد بدوره لا يملك مكانا ولا يستطيع –فى الوقت نفسه– أن يقاوم شهوته المشتعلة، ومن هنا يتفتق ذهنه عن فكرة اصطحابها إلى المعهد حيث يقيم، بعد أن تتنكر فى ملابس طالب أزهري:

- يخرب بيتك. انت ناوى على إيه؟ حاتودينا على فين؟

قال لها بتصميم:

- من حسن الحظ إن احنا بالليل، وماحدش حايلحظ عيونك، وحواجبك، وصدرك النافر.. زى المهرة وحياتك.

أحست بالشلل، وهو يتحدث عنها. قالت له:

- دا انت حتة شيخ. يا ما تحت السواهى دواهي».

فكرة جنونية تنبع من اشتعال الشهوة وقلة الحيلة، لكن ليلى لا ترفض أو تقاوم، متوافقة بقرارها هذا مع الفلسفة التى تعتنقها وتعود لتأكيدها فى ثقة وبساطة: «اللى يحصل يحصل. حايكون مكتوب ومقدر».


المغامرة الكبرى

فى ظل اشتعال الشهوة الجامحة، يندفع سعيد فى مغامرة تفوق الخيال، فهو يصطحب ليلى المتنكرة فى ملابسه الدينية إلى المعهد، وهكذا تدخل العاهرة المحترفة «حرمًا لم تدخله امرأة قط، فى نهار أو ليل».

إنه جنون الشهوة التى لا تُقاوم، وقسوة الحرمان مسئولة عن السلوك الغرائبى المندفع بلا حسابات. يقضى معها ساعات فى سريره، محاطًا بزملاء العنبر المستغرقين فى النوم، وقبيل الفجر يتم اكتشاف الفضيحة. عندئذ تصل الغرابة إلى ذروتها، ذلك أن زملاء العنبر جميعًا يصرون على مشاركة سعيد فى الغنيمة، ولا يتورع الشيخ خضر عن الاستعانة بمنطق متهافت يبرر به الفعلة التى لا سند لها فى الدين الذى يدرسه علومه:

- مرة. مرة فى العمر يا شيخ عبدالصمد، ثم نستغفر الله ولا نعود إلى مثلها، وباب التوبة مفتوح للتائبين.

لكن الصمت المستنكر ظل سائدا فى العنبر، فراح الشيخ خضر يطوف بينهم قائلا:

- الظاهر أنكم لستم رجالًا. ألا يريد أحد منكم أن يعرف نفسه، هل هو أهل للنساء، قبل أن يتزوج فى الحلال. لمثل هذه الغاية، سخَّر الله مثل هذه المرأة الحلوة».

يستحل الشيخ فعلًا محرمًا عبر حجة باطلة متهافتة لا أصل لها، ويستجيب الجميع لنداء الشهوة متتابعين على مضاجعة العاهرة المستسلمة بلا إرادة. ما تواجهه ليلى كابوس يفوق كل خيال، وأسوأ ما فى كابوسها هذا أن الإفلات منه ليس ممكنًا، ولا مهرب لها من الاستجابة والرضوخ: «واتجه الشيخ خضر إليها، وسحبها من يدها، فتبعته فى سكون، قائلة بتوسل:

- بس طلعونى من هنا، من غير فضيحة. استروا عليَّه. لكم ولايا».

تحترف ليلى بيع جسدها، ولا متسع فى قاموس مهنتها للأعراف الأخلاقية والقيم الدينية، لكنها تنتمى إلى المجتمع وتخشى الفضيحة وتنشد الستر. إنها ضحية جديرة بالشفقة والرثاء، والجناة ليسوا ذئابًا متوحشين كما يبدو للوهلة الأولى، بل إنهم يعانون قهر الكبت والحرمان. عندما تتحقق المخاوف وتنفجر الفضيحة، لا تملك ليلى إلا أن تلطم خديها وتصرخ:

- يا فضيحتي. يا فضيحتي.

واندفعت نحو سعيد تهزه صارخة:

- أنت اللى جبتنى هنا. طلعنى من هنا.

وزعق الشيخ خضر محتجًا:

- يعنى إيه. أنا اللى ماليش بخت. كان لازم أنا الأول».

بالمقولة الاحتجاجية للشيخ خضر، يتحول المشهد إلى كوميديا سوداء، فلا شيء ينشغل به إلا ضياع فرصته فى المضاجعة، أما ليلى فإنها تجلس فى الركن مسكونة بالذعر، ولا أحد يشاركها مرارة المحنة إلا الشيخ سعيد، صانع المأساة والمسئول عن الوصول إلى النهاية الكارثية الأليمة: «كانت تواصل نشيجها المكتوم فى صدره، وأصابعها تتشبث بفتحة جلبابه. زفر بحرقة، ولفح زفيره وجهها. وقبل جبينها، فرفعت رأسها إليه، ورأت دموعه تنحدر على خديه، فمدت يدها وراحت تمسح له دموعه. قبَّل تلك اليد، وضم رأسها إلى صدره. أدرك عندئذ، أن أى شيء سيحدث لن يفرق بينهما. قالت له، وأنفاسها فى فتحة جلبابه، على صدره:

- حايعملوا فينا إيه؟

سكت طويلًا، ثم قال لها:

- لا أعرف. الأمر كله الآن فى يد الله، وشيخ المعهد».

يرفض شيخ المعهد أن يقيم الحد على الزانية والزناة، ليس لأنه ضعيف الإيمان، لكن الحسابات الدنيوية عنده تنتصر على ثوابت الدين، التى يتحايل عليها بالحديث عن سلطة ولى الأمر والقضاة من ناحية ومخاوفه من شماتة الأعداء من ناحية أخرى. يقنع الرجل بالحل الآمن الذى يتضمن خروج العاهرة آمنة سالمة، وفصل الشيخ سعيد بشكل نهائى من الدراسة فى الأزهر، وحرمان شركائه فى الجرم من الدراسة والامتحان عامًا! خروج ليلى ليس آمنًا بشكل مطلق، ذلك أنها ترى طالبًا تعرفه من بلدياتها، وتعى أن فضيحتها المدوية لن تكون سرًا، ولا نجاة من معرفة الجميع بها!.