الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

النضال العمالي والبيئة الريفية غلفت تفاصيل الجانب الإنساني لـ"جوابات حراجي"

النضال العمالى والبيئة
النضال العمالى والبيئة الريفية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى

«طلعت أفندى» أحد مهندسى السد ساعد فى توسيع مدارك «حراجى» وتميز بالبساطة 

كتب الخال الأبنودى قصائد الجوابات فى العام ١٩٦٦، وكانت الأفكار التى تخص الاشتراكية برعاية الزعيم الراحل جمال عبدالناصر منتشرة بين الشباب، لا سيما هؤلاء المؤمنين ببطولة وزعامة ناصر، وقد اعتنق الأبنودى الأفكار الاشتراكية ثم الشيوعية، التى تنحو بناحية خاصة تجاه المال وسيطرة الدولة على أساليب الإنتاج والثروة، ودور الطبقات الدنيا المكونة من العمال والفلاحين فى بناء الأوطان وتغيير مسار الحكومات والأنظمة السياسية، وكانت تلك البصمة الخاصة بالنضال العمالى وقدرتهم على فهم الواقع وتحقيق النهضة الحقيقية للبلاد التى تتمنى دخول عصر الصناعات والتحول الاقتصادى الكبير.
ظهرت البيئة العمالية جلية فى قصائد الجوابات فتحدث عن العلاقة بين العامل وصاحب العمل، وكانت روسيا آنذاك تدعم تلك الشعوب التى تتبنى هذه الأفكار؛ فلقد ساعدت مصر ووقفت بجوارها أثناء بناء السد بالخبراء والآلات وغير ذلك، ودعمت موقف مصر سياسيا فى المحافل الدولية، وقد ساعدتها أثناء الهزيمة وأثنا النصر، فيقول الأبنودى عن روسيا، أو الاتحاد السوفيتى آنذاك:
«روسيا.. اسمها روسيا/ دولة، دولة كبرانة/ والناس دى يا فاطنة/ مش مجبورة ع الشغل/ عشان روحا/ مجبورة عشانا إحنا/ نقف على رجلينا/ ويكون الواحد مننا حر.
لقد جمعت الجوابات شخصيات مهمة حفلت بالرموز والإحالات المهمة كان من أهمها الأسطى حراجى العامل بالسد العالى الذى ذهب مع رفاقه إلى حر الجبال، فى القطار الذى أسرع بطريقة جنونية كأنه «داس على بصة نار»، وحراجى القط بطل القصة، وهو فلاح بسيط من جبلاية الفار عمل ضمن الآلاف الذين تم جلبهم للمساعدة فى أعمال البناء، وفاطمة أحمد عبدالغفار: زوجته، وهى سيدة ريفية بسيطة، ولكنها تحمل رغم بساطتها وسذاجتها فى أحيان كثيرة عقلا ووعيا مستنيرا، ودافعا قويا للحياة وفهمها، ولقد لعبت الزوجة دور المثير للحكى فأخرجت من زوجها تلك التأملات التى راودت عقله وباله.
أما طلعت أفندي: أحد مهندسى السد العالي، وهى الشخصية التى ساعدت فى نقل الوعى التقدمى لحراجى القط كما ساعد فى توسيع مداركه وتبصيره، وتميزت شخصيته بالبساطة والتواضع والعمق، لا يكف عن توجيه حراجى للتساؤل والتأمل وسماع الحكاوى المعينة على نقل التجارب الإنسانية القديمة فى استبصار الحياة.


أيضا الحاج حسين العكرش: مقاول أنفار، يشبه ريس عمال الترحيلة، يذهب إلى القرى ويجلب منها العمّال، ويتقاضى أجرا على كل فرد يجلبه، وهو الذى طرح فكرة العمل فى أسوان لحراجى القط للمرة الأولى، وكان مثيرا للقلق فهو الناس تجرى وراءه لأنهم يعرفون أن بيده أرزاقهم حين يأخذهم للعمل، لكنه لم يكن يهمه من ذلك إلا أن يتاجر فى الناس، الملوى: أحد رفاق حراجى القط، وأحد العمّال فى السد العالى.
على أب عباس: أحد رفاقه العاملين فى السد العالي، أما مرزوق البسطاوي: عامل البريد الذى كان همزة الوصل بين حراجى القط وزوجته، وشخصيته لا وجود لها لكنها العامل الأهم فى نقل الخطابات وقراءة ذلك للأهل وقد جاء محملا بالدلالات المختلفة، نظلة: أخت حراجى القط وجاءت بصورة عرضية للتدليل على تلاحم الأسرة الريفية، والشيخ قرشي: شيخ الكُتّاب الذى كان يُشرف على تعليم «عيد» ابن حراجي
كما نقلت قصائد الخال ملامح البيئة المحلية الريفية التى أظهرها بجانبها الإنسانى البالغ والعميق، وقد نقلها فى قالب شعرى سهل وممتع، وكانت قضية عمل المرأة من تلك القضايا التى تشغل بال القصيدة وتناقشها، فنظرة الرجل للمرأة التى تعمل تكون مخيفة لفاطمة؛ فهى تخشى أن يوصد الرجال الأبواب فى وجهها لأنها خالفت ما دأبت عليه.
وتطرح زوجته عليه سؤال العمل بطريقة بسيطة تعتبر مدخلا ذكيا لتفكيك قضية عمل المرأة بالنسبة للرجل فيقول
«فى حاجة تانية يا حراجى/ إشمعنا الشغل تملّى للرجال/ أمّال الناس كانت راح تعمل كيف/ لو ربنا بس خلقها كلّها نسوان؟».
كما تقول: «طول عمر المرة منينا يا ود خالي/ ما سبوها تعمل حاجة فى البيت/ إلا إن كانت الشغلة قدام الفرن/ وحط الطاجن ع الكوانين»، وتقول: «واحدة عفيّة زيى يخلوها للشيل والحط/ مش ملى الجرّة والكنس».
ثم تستشعر التخوف من رجال جبلاية الفار فتقول: «والنبى لو قلت كلام دى للجبلاية/ لرد فى وشى بيبانها/ والنبى والرجالة ما تخلينى أقعد مع نسوانها».


فجاءت الطريقة ذكية وواعية فى مخاطبة أهل البيئات المحلية الذين يحافظون على عادات وتقاليد صارمة تتعلق بعمل المرأة وخروجها من البيت واختلاطها بالرجال، ونجحت الشخصية فى عرض القضية الأهم والأبرز بطريقة تهم كل امرأة بعقل مستنير.. «وفاطنة ما تبقاش فاطنة بت أحمد/ لو ما الجبلاية تعمل نسوانها زيّها يا حراجي».
فهى لا تسعى فقط لكسر العادة فتخرج للعمل، بل تسعى أيضا لتكون مثالا ونموذجا يحتذى به فتكون سببا فى تحرير آلاف النساء، وليكن العمل مدخلا لكسب المال بل وكسب الذات أيضا.
«تتباع ملوخيتها فى السوق يوم السوق/ أيوه.../ حطلع أبيعها فى السوق/ وأنا رايحة فين؟/ رايحة أبيع عرقي، وأجيب حقو/ ما فيهاش حاجة». 
والجوابات تتناول موضوعها بطريقة فلسفية رائعة وبسيطة تناسب ثقافة تلك الشخصيات التى تتحرك داخل العمل الشعري، إنها حكاية التحولات الكبيرة فى حياة المصريين، زمن شهد أحداثًا عظيمة غيرت مجرى التاريخ فيها تعرض الشعب للهزيمة، لكنه استمر فى النضال ليتمم بناء مشروعه القومى الكبير، ومن منظور حراجى يشاهد الخال ذلك المشروع الكبير فيرى أسوان والجبال والديناميت والعمال والمرأة التى ترتدى البدلة وتنزل مواقع العلم والروس والمثقفين.
وإذا كان السد فتح عين حراجى على العالم فد فتح عين زوجته على المطالبة بحقوقها فى العمل ومخالطة الناس ونزول السوق للتجارة وبيع ما تنتجه الأرض.
ولم تفتح فاطمة فقط قضايا المرأة، وبخاصة التى تناضل فيها النساء العاملات بالمجال الحقوقي، بل كانت مدخلا كبيرا لفهم الوضع القائم فى عملية بناء السد التى حرصت على إثارة عامل الحكى لدى زوجها حراجى ففاض بمكنونه وتحدث عما يدور بداخله وعن مشاهداته ورأيه.