الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"الأبنودي": "حراجي" هتف بي لأكتبه بعدما صادرت "المباحث" نسخته الأولى

الأبنودى
الأبنودى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى
«الخال»: اعتبرت كأنى لم أكتبه وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح وأنجزته خلال أسبوع
جاء ديوان جوابات «الأسطى حراجى القط» كواحد من الأعمال الملحمية الطويلة التى كتبها الخال عبدالرحمن الأبنودي، وهى سيرة شعبية لاقت قبولا وانتشارا واسعا بعد طرحها من قبل الأبنودى لأول مرة عام ١٩٦٩، وتضاهى فى أهميتها ملحمة سيرة بنى هلال؛ فإن كانت الملحمة الشعبية لبنى هلال، تجسد أسطورة المخلص والمنتصر الذى يستطيع أن ينقذ أهله العرب من الجفاف، وإن كانت تحمل قيمة كبيرة فى الحفاظ على ذلك الموروث للراوى الشعبى الشفاهي، فملحمة حراجى القط تنظم ولأول مرة ملحمة حديثة للعصر الحديث لا تنتصر لحرب ولا تضع مبررات لهزيمة ولكنها تخلد روحا نضالية مصرية خالصة فى البناء والتعمير لكى تحتل مصر مكانتها الطبيعية على خريطة التقدم والنهوض.
انتشرت رسائل حراجى القط على ألسنة المثقفين والشعراء، وتناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي، وموقع «اليوتيوب»، وساوند كلاود، وتظل مستمرة فى التناقل والانتشار عبر باقى الأزمان والعصور.
قديمًا انضم الأبنودى عام ١٩٦٦ لأحد التنظيمات الشيوعية، فقبض عليه، وأثناء اعتقاله أخذت المباحث مخطوط ديوانه، وأوراقًا أخرى، ويقول الأبنودى: «اعتبرت كأنى لم أكتبه، وحاولت نسيان الأمر فلم أفلح، وذات ضحى يوم شتائي، هتف بى حراجى لأكتبه، فاندلعت الرسائل متتابعة بِكَرا، كأننى لم أكتبها من قبل.. أنجزته خلال أسبوع، ودفعت به إلى المطبعة من دون مراجعة، كأنه تحد لمن اغتصبوا حراجى الأول». لكنه اكتشف فى السجن أن «الشيوعية ليست طريقًا لتحقيق الذات أو تقديم الخير إلى الفقراء».
جاءت الجوابات فى خمس عشرة رسالة متبادلة بين حراجى القط أحد العاملين بالسد العالي، وزوجته البسيطة فاطمة أحمد عبدالغفار، يحكى لها فيها عن مشاهداته وانطباعاته عن أسوان، وكيف أن العمل فى بناء السد العالى كان سببا فى انفتاح بصيرته على دنيا كانت مجهولة بالنسبة إليه، وحرصت هذه الزوجة الريفية على معرفة المزيد عن السد والأشياء المجهولة التى شاهدها زوجها؛ فكانت المثير دائما والعامل الأبرز فى إثارة عملية الحكى لدى حراجي.
وكان اكتمال بناء السد العالي، كأعظم المشاريع التى بنتها مصر فى العصر الحديث وكأعظم مشروع للبنية الأساسية فى العالم يثير زهو مصر ويرفع الروح المعنوية لشعبها.
وإن كانت الكتابة عن السد تأخذ شكلا معينا بحكم الظروف السياسية العصيبة التى مرت بها البلاد، وبحكم الآمال التى بثها فى نفوس الشعوب ذلك الزعيم الملهم عبدالناصر، فكانت الكتابة تتجه ناحية العراقيل التى واجهت البناء والتمويل لكن الخال عبدالرحمن الأبنودى يتجه بكلماته إلى تلك الحالة الخاصة التى عاشها الأسطى حراجى وزوجته فاطمة.
فالمتلقى يلتقط تلك النغمة الإنسانية العالية التى يتحدث عنها الخال عندما يصور مثلا غياب العمال فى ظلام الأنفاق فى موقع العمل؛ فيستدعى حالة من الخوف تشيع فى نفوس المستمعين ولا سيما فاطمة التى تسمع خطابات زوجها، ويتساءل فيها: هل تعرف زوجته هذه الأنفاق؟ وتتبدى أسوان بمظهرها المقفر، فهى إن كانت تظهر فى خيال المستمع بلدًا به شوارع وسرايات وفيللات، لكن أسوان الأخرى التى يعمل بها حراجى عبارة عن جبل وصحراء قاتلة، يصعب على الإنسان أن يتحمل معاناة تلك الطبيعة وذلك العمل دون إيمان ودون مقابل، ولم يكن حراجى من الذين ينتظرون المال، لكنه كان ينتظر أن يشير يده ناحية الجزء الكبير والمهم فى بناء السد فيقول أنا من عملت هذا. 
لقد كانت تثير تلك الأخبار التى تشيع بين الناس عن تعرض العمال للموت والاختفاء وغير ذلك فتذكر له زوجته تلك الأخبار بقلق كبير، وإن كان قلق الزوجة مسيطرًا وموجودًا بشكل كبير؛ فإن خوف الأم أيضا ورغبتها فى أن ترى ابنها «على أبو عباس» يستطيع أن يقوم بأعباء أسرته من وراء عمله فى ذلك المشروع.
وتظل نظرة حراجى لتلك الآلات الكبيرة التى شاركت فى البناء مثيرة للدهشة؛ فهو ابن القرية الذى لم يتعرض لتطورات العصر لكنه يصل إلى عمق الفكرة ويتدبر تلك العقول الغربية التى اعتمدت على التعليم فصنعت للبشرية ماكينات وآلات ضخمة تستطيع أن تحمل فوق ظهرها ١٠٠ نخلة كما يصفها الخال من منظور العامل البسيط، وأيضا تستطيع أن تحرك عربة قطار يعجز عن تحريكها الرجال الأشداء.
ولكن ماذا حقق السد لحراجي؟ لقد فتح له الباب على الوعى الكامل بالدنيا، أن يعرف أهمية السد، ضجر الغربة، مرارة الشوق، تعاون الإنسان مع أخيه الإنسان لا سيما حين يقول تلك الحكاية: 
«من قيمة ست سبع تيام قاللى الأستاذ طلعت / روح الورشة يا حراجي/ عاوزين ترسين من قيمة سته ف سته وعشرين سُمك صغير/ طبعًا طير رحت للورشة/ واحمد ربى أن أنا رحت ساعتها على طول/ وكإن الأستاذ طلعت كان حاسس/ بره الورشه لقيت أوسطى ميكانيكي/ مزرود تحت خابور قد الحيطة/ وأوسطى تاني/ عمال يرفعه عنه ما قادرشي/ الصخص خلاص حيموت/ وازعق بعلو الحس وأقول «الله يا ولاد»/ جات الرجال م الورشة والموقع زى النمل/ خلصنا الراجل».
لقد أثارت تلك الحكاية حراجى وجعلته يفكر فى تعاونه مع الآخرين وأهمية وجود الإنساء ودوره فى البناء الاجتماعى للحياة، ثم يتعرض لخوف العمال من مخاطر العمل وهروبهم أثناء زرع الديناميت لتفتيت الجبل والصخور، ورغم كل هذا يعمل حراجى ويعترف أنه لولا السد، لظل يتعثر فى طريقه الذى يسلكه أى ريفى بسيط يعمل أجرى فى الحقول، لقد نقله على كل المستويات الفكرية حين فتح بصيرته والمالى حين يرسل لزوجته المال، ولعل حراجى يمثل الإسقاط المباشر لمصر؛ فلقد استطاع السد أن يخلق وجودها فى عصرها الحديث.