الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية بين الممارسات والشعارات "7"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن نهج المعلم فى إلقاء الخطاب المعرفى على التلاميذ له عظيم الأثر فى تربية أذهانهم وتعويدهم على ممارسة الديمقراطية من عدمها، فإذا كان حديثه أدنى إلى صيغ الأمر والانفراد بالرأى وإيهام سامعيه بامتلاكه لب الحقيقة التى لا تقبل الارتياب أو المناقشة ولا التقويم، يكبر التلميذ على رفض كل شكل من أشكال الاختلاف وكل درب من النقد وتعدد الرؤى، وينعكس ذلك بطبيعة الحال على حياته وتصرفاته فيخرج من استبداد الأب إلى استبداد المعلم معتقدا أن فى طاعتهما النجاة من شر العقوق أو الخسران والرسوب فى الامتحانات. ويتلقف المتلاعبون بالعقول هذه الذهنية فى سن المراهقة - وهو المرحلة العمرية الأخطر من حيث تأثيرها فى تكوين الشخصية وطرائق التفكير بوجه عام - فيطبعونها تبعًا لأهوائهم ومنازعهم ومعتقداتهم، مؤكدين بذلك آفة التقليد والطاعة التى حملها المقلدون منذ نعومة أظافرهم فيقضون تمامًا على بذور الحرية والتقويم عندهم، ويتخذون من الموروث والدين والمأثورات من المحفوظات وما خفى عن هاتيك الأذهان من معارف ومعلومات وآليات للسيطرة عليها. أما الفارون من شَرَك القولبة والتبعية يظلون عاجزين عن التعبير عن آرائهم، وذلك لأنهم لم يمارسوا هذا الدرب من دروب التعلم، وهذا الخلل نجده واضحًا تمامًا بين طلاب الجامعات الذين يصرون على ضرورة السير على نهج المدرسين: التلقين ثم التلقين، ومن المؤسف أن نجد نفرًا غير قليل من الأساتذة يخضعون إلى رغباتهم فتستحيل الجامعات إلى مدارس تلقينية وليست قاعات للتثقيف والتنوير والبحث العلمى.
وينبغى ألا نلقى بالتبعة على الطلاب ومعلمى المدارس وأساتذة الجامعات وحدهم، آخذين فى الاعتبار (أعداد التلاميذ، فساد الدورات التدريبية لرفع كفاءة المدرسين، وجود معلمين غير مؤهلين لحمل الرسالة، ولا يقدمون الالتزام بأخلاقيات المهنة على مصالحهم الشخصية)، وذلك لأن المنظومة التعليمية بكاملها تحتاج إلى تقويم وإعادة بناء، كما أن البيئة الجامعية أضحت للأسف معقلًا لسجن العقول. 
والجدير بالإشارة فى هذا السياق ما ذهب إليه كل من «هنرى برجسون» (١٨٥٩-١٩٤١ م)، و«كارل بوبر» (١٩٠٢-١٩٩٤ م) فى حديثهما عن الثقافات المغلقة والثقافات المفتوحة، فالأولى تسجن الأذهان داخل نموذج واحد مستمد من الموروث والمعتقدات بحجة أنه السبيل الأوحد للسعادة، وتحرّم عليهم إعمال العقل فيما يتعلمون أو يوجهون إليه بحجة أن الشك فيما يقدم لهم باعتباره ثوابت سوف يحرمهم من الأمن وراحة البال، التى يطمح إليها المواطنون فى المجتمعات المغلقة دون المجتمعات الحرة التى تعلى من شأن العقل لاختيار الأنسب والأفضل من النظم والقيم والمعارف والسياسات. 
والعلاقة وثيقة بين غياب الديمقراطية فى المؤسسات التعليمية وحياتنا السياسية، والأمثلة عديدة (عدم تشاور المعلمين مع آباء التلاميذ خلال مجالس أولياء الأمور، انعدام الوعى السياسى تبعًا لإهمال تدريس التربية الوطنية، فشل نظام الانتخابات فى الحياة الجامعية سواء على مستوى الاتحادات الطلابية أو اختيار القيادات فى الكليات والمراكز البحثية)، فكل هذه الصور ما زالت تحكمها الشللية والمنافع الخاصة والفساد بكل أشكاله بما فى ذلك لجان التعيينات والترقيات واختيار القيادات. فالديمقراطية التى ننشدها وثيقة الصلة بالأخلاق التطبيقية، وقد أكد على ذلك معظم فلاسفة السياسة بداية من أفلاطون، الماوردى (٩٧٢-١٠٥٨) ابن حزم (٩٩٤-١٠٦٤)، جوسيا رويس (١٨٥٥-١٩١٦)، جورج برنارد شو (١٨٥٦-١٩٥٠) بيرتراند راسل(١٨٧٢-١٩٧٠)، هارولد لاسكى (١٨٩٣-١٩٥٠)، إريك فروم (١٩٠٠-١٩٨٠)، مايكل أوكشوت (١٩٠١-١٩٩٠)، حنة آرنت (١٩٠٦-١٩٧٠)، ديجون رولس (١٩٢١-٢٠٠٢)، ميشيل فوكو (١٩٢٦-١٩٨٤)، وغيرهم مما لا يتسع المقام لذكرهم وعرض آرائهم تلك التى أكدت أمرين:
أولهما أن دمار الديمقراطية فى إخراجها من دائرة التطبيق إلى فوضى الشعارات، وانتقال حمى التعصب إلى آراء المتساجلين، فتصبح صكوكًا ومقدسات لا يمكن التنازل عنها أو التسامح مع من ينكرها من المخالفين، أضف إلى ذلك تغلغل الفساد فى دنيا السياسة فيبيت الدولار والمصالح الخاصة والكذب والتآمر على مقدرات الشعب هو ديدن رجالات الأحزاب ورؤساء النقابات ورجال الثقافة والإعلام، ذلك فضلًا عن جعل شعار الغلبة للأقوى هو دستور العلاقات السياسية فى الأمم غير المؤهلة لذلك. 
أما الأمر الثانى فيتمثل فى غيبة أو ضعف آليات الديمقراطية باعتبارها أفعالًا وسلوكًا وفلسفة للتطبيق: فالوعى بأبعاد مفهوم مصطلح الحرية بكل أشكالها وتربية الرأى العام وتعليمه وتثقيفه والمشاركة الإيجابية فى جل ضروب التعبير عن الرأى والتمسك بالقيم الأخلاقية أثناء الثورات وإعلاء روح التسامح بين المتنافسين والمتناظرين من أهم هذه الآليات بل إن شئت قل هى عمد الديمقراطية. وقد أجمع فلاسفة السياسة أيضًا على ضرورة استبعاد الجهلاء والحمقى من ممارسة الديمقراطية المباشرة، كما أوصوا بأن أهل الدربة والدراية هم المسئولون فى المقام الأول عن احتلال موقع الصدارة على المسرح السياسى. أما من يفضل الانزواء أو المقاطعة أو الصمت والخنوع، فيجب إدراج أسمائهم فى جداول الخائنين للديمقراطية؛ ولم يعد بعد ذلك.. للحديث بقية.