الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: العاهرات في الأدب المصري.. الضرورة والإدانة "3"

عبدالرحمن الشرقاوى تناول الحياة الجنسية فى الريف المصرى فى بداية القرن العشرين

الكاتب مصطفى بيومي
الكاتب مصطفى بيومي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«الشرقاوي» سعى لكشف أسباب الضياع وهوان الحاضر وكآبة المستقبل
«بائعة الهوى» في «الأرض» فقيرة في قرية تعاني الكبت الجنسي
حياتها كانت بيد من يملك قوتها.. وموتها كان سوطًا في يد الحاكم
وظيفة خضرة الجنسية في مجتمع القرية حيوية وبالغة الأهمية
عمدة القرية استغل موتها للانتقام من علواني ولإرهاب معارضيه
«خضرة» تتمسك بقوانين أخلاقية في عملها «غير الأخلاقي»

إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة في مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذي يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذي يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومي والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصري الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه.. تتوقف الدراسة التي تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة في إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولي الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني.. في التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط في الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية.. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال. 

تنتمي خضرة، في رواية «الأرض»، إلى القرية التي يقدمها عبدالرحمن الشرقاوي، وتمثل جزءًا أصيلًا من نسيجها.. إنها العاهرة الوحيدة المحترفة، المتاحة بالثمن البخس لكل من يرغب فيها، لكن الاحتياج الجنسي يطول نساء أخريات «فاضلات»، يدفعهن الحرمان والكبت إلى البحث عن متنفس مجاني لإشباع الرغبة الملحة.
فضلا عن الوظيفة الجنسية التي تقوم بها خضرة؛ فإنها تمتهن أعمالا أخرى «شريفة» ومشروعة لكسب الرزق، وهي أعمال متدنية لا تدر عائدا ماديا كبيرا، ولا ترحب بها النساء الأكثر تميزا في الخريطة الطبقية: «تمشى وراء البهائم، وتزاحم الأخريات، وتلتقط ما تسقطه البهائم من روث لتصنع منه أقراصا كبيرة تُجفف في الشمس وتوقد بها الأفران وصناعتها هذه تكفيها حاجتها من الطعام».
مثل هذا العمل المتواضع، محدود القيمة والعائد، لا يخلو من المنافسة والمزاحمة، وغاية ما يحققه هو توفير الطعام! لا بد إذن أن تلجأ خضرة إلى أعمال أخرى، وهو ما يكشف عنه دياب عندما تطلب منه أمه أن يبحث لها عمن «يحمَّى» الفرن: «وفكر دياب من فوره في أن يذهب ويستدعى خضرة».

تجليات الفقر
بعد مغادرة عزبة محمود بك واستقرارها في القرية، كان لا بد أن تعول خضرة نفسها، دون اعتماد على الدعارة غير المنتظمة وغير مضمونة الإيراد: «وعادت إلى القرية لتعيش على عملها في الحقول، أو لتغسل القمح في البيوت الثلاثة التي يختبئ نساؤها». 
على الرغم من الأعمال الكثيرة الشاقة التي تقوم بها خضرة: صناعة الجلة، خدمة البيوت والحقول، غسيل القمح، منح جسدها لشباب ورجال القرية؛ فإن شبح الجوع لا يغادرها، ذلك أنها عاهرة فقيرة في مجتمع فقير!
ليس من تجسيد لواقع حياة خضرة، أفضل مما يفكر فيه عبدالهادي: «فتاة ترقص فى كل فرح، وتتكلم عن العلاقات الجنسية بلا تحرج، وتبيع نفسها فى الموالد والأفراح والأعياد ومواسم الذرة والقصب والقطن بعلبة من الملبن أو بكف من الحلاوة السمسمية أو ربما بكيزان خضراء من الذرة وأعواد من القصب!».
ترقص وتتكلم بلا حياء، وتبيع نفسها بالثمن البخس. ضائعة لا تحظى بالاحترام، لكنها تندمج وتذوب في مجتمع القرية الذي يتقبلها شرا لا بد منه، وضرورة لا غنى عنها! عبدالهادي نفسه هو من يعود إلى التفكير في خضرة وتحديد مكانتها في مجتمع القرية: «تعيش في القرية بلا أرض ولا أمل ولا سمعة».
عبدالهادي مالك زراعي صغير، وملكية الأرض معياره الأساس في تقييم الآخرين، وغياب الأسرة والملكية مدخله في استعراض تاريخ خضرة وتحليله لبداية ضياعها: «تعيش في القرية بلا أرض ولا أهل وأقاربها قد تنازلوا عنها منذ تركوها للبيه الأعزب تخدم في عزبته الصغيرة ذات الثلاثين فدانا، وطردها محمود بيه بعد أن خدمته سنتين».

الفتاة الصغيرة
عادت إلى القرية لتعيش على عملها في الحقول، أو لتغسل القمح في البيوت الثلاثة التي يختبئ نساؤها.
لا شك أن البك «الأعزب» قد استنزف الفتاة الصغيرة ونال منها مأربه، ثم لم يعد في حاجة إليها. فترة العامين كافية لإفسادها وتهيئتها لمرحلة الضياع الجنسي الذي تمارسه في القرية بعد عودتها واستقرارها، وفي فترة الخدمة والحظوة كانت ذات نفوذ وتأثير: «لا يستطيع أحد من الأنفار أن يفتح عينه فيها أو يرد لها طلبا».
طفولة شقية بائسة، وانتهاك جنسي مبكر، وغياب كامل للأهل والرعاية والرقابة، وعودة إلى القرية لتخدم في بيوت أثريائها، وتعالج المشكلات الجنسية المزمنة للشباب والرجال، ولذلك يحتاجها المجتمع المحافظ بقدر ما يرفضها.
تنعكس حياة خضرة الجنسية الصاخبة على لغتها وأسلوب حركتها، فهي تتسم بقدر كبير من الجرأة والصراحة الفجة الوقحة والقدرة على الاقتحام. الهمسات والكلمات الجنسية البذيئة تمثل ملمحا بارزا فى شخصيتها، وعلامة من العلامات المميزة لها، وليس أدل على ذلك من ارتباط المكان الذي تملأ منه النساء جرارهن بخضرة والمفردات الخارجة المقترنة بها: «ومضى عبدالهادي يهمهم بأغنية حزينة، واتجه إلى ساقيته مارا بالمكان الذي تملأ منه النساء، ويرتفع منه صوت خضرة في النهار بالكلمات الخارجة، وحركات الذراع المخجلة كلما رأت محمد أفندي».
الكلمات «الخارجة» والحركات «المخجلة» واقتحام المسكوت عنه من حكايات جنسية مثيرة، من السمات اللصيقة بخضرة، وهذا ما يتجلى في عديد من مواضع الرواية: مع صديقتها وصيفة، والفتيات الأخريات، ودياب.
الفارق الرئيسي بين خضرة وفتيات القرية، بين الشهوة الصريحة والرغبة الكامنة، هو ما نجده من اختلاف ملموس بين غناء وصيفة وغناء خضرة، فى الفرح الذى يشارك فيه الجميع. تغنى وصيفة فتعبَّر عن مشاعر الحب والجنس والعواطف المكبوتة، في إطار فني يبتعد عن المباشرة والابتذال الفج:
«أنا كل ما أطلب وصالك بدك تمضيعني».
«علشان ما أنت الحليوة والجميل يعني».
تنتهي وصيفة من الغناء فتجلس خضرة مكانها، وتبدأ في إلقاء أغنية خليعة مضادة بصوت متحشرج:
«على السرير ودلعني ليه ليه يا مناه 
على السرير الجواني ليه ليه يا مناه 
وترددت الفتيات في الرد عليها».
مفردات «الوصال» و«الضياع» و«لوعة الحب» هي السائدة في غناء وصيفة، ومفردات «السرير» و«الدلع» و«الالتهاب الحسي الصارخ» تسيطر على ما تغنيه خضرة، والمشترك بينهما هو الاحتياج العاطفي الجنسي الذي تتباين وسائل وأدوات التعبير عنه.
إدانة واحتياج
وظيفة خضرة الجنسية في مجتمع القرية، حيوية بالغة الأهمية والخطورة، وعملها كقوادة يتكامل مع عملها في الدعارة! عبدالهادي هو الأكثر سخطا على هذا الدور؛ لأنها تقوم به لحساب غيره، وثمة سؤال يمثل مشكلة في فهم شخصية عبدالهادي: كيف يحب وصيفة ويدمن الشك في سلوكها؟!
ما يغيب عن عبدالهادي، فى اندفاعه العاطفي غير المحسوب، أن لخضرة الضائعة قيمها وأخلاقياتها ومشاعر الضمير الديني الذي يحكمها، ولا يتناقض ذلك كله مع حياة الرذيلة التي تنغمس فيها، مدفوعة بالقهر الاجتماعي والفقر والحاجة.
الشكوك تحاصر وصيفة إذ تظن أن خضرة قد تبوح لعبدالهادي بشيء من أحلامها حول محمد أفندي، وعندئذ تدق خضرة صدرها باستنكار: «يا حومتي! ينقطع لساني إن كنت قلت لعبدالهادي حاجة عن محمد أفندي، وإلا حتى اسمه جه على لساني وأنا بكلم عبدالهادي! إن شا الله يا رب ينقطع لساني من اللغلوغة إن كنت قلت حاجة لعبدالهادي! يا حسرتي يا وصيفة! دى تبقى فتنة والفتنة حرام! دي الفتنة أشد من القتل.. دا أنا بأخاف من ربنا!».
دفاع حار يحمل رائحة الصدق والإخلاص، ومن خلاله تكشف خضرة عن أهم القوانين «الأخلاقية» التي تحكم عملها «غير الأخلاقي»: الفتنة أشد من القتل، الخوف من الله! تعرف أن ما تقوم به، وما تسهل القيام به لغيرها، ينافي الدين والتقاليد السائدة الجديرة بالاحترام، لكنها تحرص أن تكون أخطاؤها محسوبة وخطاياها محدودة التأثير. انفلاتها فى الكلام والحركة لا يعنى غياب الضمير والشعور بالمسئولية والالتزام بالحد الأدنى من الأعراف: «كانت خضرة تعطي نفسها حقا لفتيان القرية بأي ثمن يدفعونه، حتى بخيارة طرية في يوم حار، وكانت تقوم بخدمات كثيرة لمحمد أفندي ولعبدالهادي مع أخريات، ولكنها مع ذلك كانت تخشى الله!».
كانت تعرف أن الفتنة أشد من القتل، وتحرص إلى آخر حد على أسرار الفتيات والنساء اللواتي تتوسط عندهن لمحمد أفندي أو لغيره من شباب القرية.
الأسرار جديرة بالكتمان، والأعراض ليست مطروحة للتشهير والبوح، والله حاضر في أعماقها.. تسهَّل المتعة للراغبين والراغبات، لكنها تأبى أن تكون مصدرًا للفتنة المدمرة، وسببا فى كشف المخبوء المستور.
يمكن القول إن خضرة ليست بالساقطة الوحيدة التي تنجبها القرية، لكنها الأقل حظا والأكثر فقرا!
هل ماتت خضرة قتيلة؟
الشيخ الشناوى هو من يحمل إلى رجال القرية خبر موتها: «خضرة النجسة وجدت الآن مقتولة ووجهها مدفون في طين القناة الصغيرة التي تروى الحقول بجوار الجسر.
واستمر الشيخ يقول إن حياتها طين وآخرتها طين»!
موت خضرة ليس بالحدث المهم، في ظل الهموم الخطيرة التي تواجهها القرية، والمسألة ليست محسومة: أهي جريمة قتل أم وفاة طبيعية؟! الشيخ الشناوي نفسه، سرعان ما ينتقل اهتمامه إلى قضية أخرى: أين تُدفن خضرة؟!: «وأقسم الشيخ أنه لن يلوث عظام الموتى بجثة خضرة التي عاشت في معصية الله، ولن يسمح لها بأن تُدفن في مقابر المسلمين».
موتها لا يبعث الحزن والأسى في حياة القرية، ويأتي حادث اعتقال أبرز رجالها، بعد ساعات قليلة، لتتواري سيرة خضرة فلا ينشغل بها أحد، ولعل دياب هو الوحيد الذى يتذكرها فى إطار إيجابى متعاطف، ويتحسر على غيابها. 
بعد خروجه من سجن المركز وعودته إلى القرية: «مرَّ بحظيرة الماشية التى تعوَّد أن يلقى عندها خضرة وأحس ببعض الوحشة».
اللامبالاة الشاملة بموت العاهرة الفقيرة البائسة، لا تحول دون سعى العمدة، الخبيث الماكر، لاستثمار موتها- قتلها في تهديد وإرهاب خصومه. الاتهام بقتلها قد يطول الجميع، والعمدة قادر على تقديم الحيثيات والمبررات التي تسَّوغ اتهامه للمشاغبين من أعدائه بارتكاب جريمة القتل الوهمية، التى يعرف العمدة أنها لم تحدث. علوانى، الأقرب إلى خضرة والأشبه بها، هو أول من يتعرض لانتقام العمدة ويُتهم بارتكاب الجريمة: «أمسك به بعض الخفراء، وذهبوا به إلى المركز.. للتحقيق معه فى قتل خضرة».
موت العاهرة سلاح يدخره العمدة، ويستعين به عند الضرورة لإرهاب وتأديب معارضيه، والمثير أن السلاح نفسه هو ما يفكر فيه الشيخ يوسف عندما تراوده أحلام العمودية، ويصطدم مع رجال القرية الذين يعيبون عليه أسلوبه فى التعامل مع الغرباء الذين يغزون القرية للعمل في شق الطريق الزراعي!
............
من خلال شخصية خضرة، التى يطيح بها عبدالرحمن الشرقاوي مبكرا كأنه يعاقبها، تقدم رواية «الأرض» شهادة بالغة الأهمية عن الحياة الجنسية فى القرية المصرية، خلال الثلث الأول من القرن العشرين: الاحتياج والحرمان والعلاقات السرية المخبوءة، تقبل المجتمع للعاهرات ونفوره منهن، الوظيفة الحيوية المهمة للعاهرات- القوادات في التنفيس عن المشاكل الجنسية للشباب والتصدي لمظاهر الشذوذ الجنسي.
في هذا السياق، لا يتحامل الشرقاوى على خضرة ولا يقدسها، ذلك أنه يسعى إلى التقييم الموضوعي كاشفا عن أسباب الضياع وهوان الحاضر وكآبة المستقبل!