الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الأرض والأبنودي.. في عشق الطين والنيل والغلابة

«مهما الموت طلَّع مصارين الأرض.. حييجى بكره وحيزرعها الإنسان»

الأبنودي
الأبنودي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف: محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامى
من طرائف طفولة «الخال» فى قريته، أنه كان يتغنّى بالقُلل الفخار القناوية التى غنّى لها العظيم الراحل الشيخ سيد درويش، وهى التى كانت تنقذ أهل قنا من الحر المميت، ونالت القلل القناوى شهرتها فى مصر كلها؛ ولكن الأطفال لم تكفهم هذه القلل «ولكنهم كوّنوا فريقًا لمكافحة العطش فى هذه البلاد الحارة، وكان الهدف هو إذا فاجأ الإفطار أحدًا فى الشارع، فيجب أن يجد قُلة باردة فى انتظاره، والثواب عند الله كبير»، لم يجد الأبنودى غضاضة فى أن هؤلاء الأطفال -وهو منهم- كانوا يذهبون لسرقة هذه الأوانى الفخارية، تحت شعار أنها إنقاذ الصائمين «والله سوف يتغاضى عن هذه السرقات البريئة المبررة من أجل الهدف الإسلامى العظيم»، لأنهم فقراء وغير قادرين على توفير هذه الأوانى بأموالهم القليلة.
هكذا مثلت الأرض مكونًا رئيسيًا وتيمة حاضرة فى أعمال الأبنودى الشعرية والنثرية منذ البدايات وحتى وارى الثرى فى أحضانها، لم يكن مجرد ريفي، جاء من الصعيد، إلى العاصمة المزدحمة المليئة بأصناف البشر وهو يحمل الحنين للأصول، وإنما جعلها ساحة لا تنتهى تتجول فيها كلماته.
ليس فقط منشأ الأبنودى الريفى فى قريته بأبنود، هو ما جعله يتغنى بالأرض؛ بل كانت المرحلة التى انطلق فيها كذلك عاملًا رئيسيًا فى استمرارها فى حاضره ومستقبله الشعرى اللامع، ففى الفترة فى أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، انتشرت العديد من الإيديولوجيات القومية التى توثق ارتباط الإنسان بمكانه، فى الوقت الذى انتشرت فيه أيضًا إيديولوجيات اشتراكية تندد بانتفاء عدالة اجتماعية فى توزيع الثروات بالمجتمع واستلاب الفقراء كالفلاحين والعمال فى حياتهم فى ظل اختلال منظومة المال وتوزيعه على المواطنين.
مثّلت الأرض كذلك بداية الأبنودى الشعرية، فجاء أول دواوينه «الأرض والعيال» حاملًا الكثير من أسرارها، منها ما حكى عنه فى قصيدة «حطب القطن» عندما قال:
«إتناشر واد
حدفتهم ع الدنيا ليالى ما شافتش نهار.
قناديل مطفية ف عين الكون.
بتدخِّن عين والد مديون
قورتُه محروته بمحرات الزمن اللى حْييه
يسعل فى الليل..
تتهز مع سعاله آخر شعره ماسكه دماغه.
حاضن بعينه وصدره الموضوع:
القطن خلاص حيموت م الجوع
حيموت القطن
لو ما تفكش هوَّه وقام لاجل يفك الرهن.
وتنوح ع البعد سواقي
وراها واد عمال يحْدى موال أخضر لون البرعم.
يحكى «الخال» عن حياته فى تلك الأرض فى أوائل الخمسينيات -وكان لا يزال واحدًا من أطفالها- مؤرخًا فى كتابه النثرى الأشهر الكثير من المواقف، وجد «الأبنودي» راحة السنوات الأخيرة بين ما زرعه بيده ورعاه كل يوم منذ كان بذورًا وحتى صار شجرًا يُطلق عليه أسماء أحبابه، فى أرضه ومنزله بمدينة الإسماعيلية. فى قصيدة «الأرض والعيال» قدّم الخال فى خطابه الشعرى صورة للشخصية الريفية، وفى كتابه «أيامى الحلوة» يقول: «لم أفكر يوما فى كتابة سيرتى الذاتية، فلست نابليون أو هتلر أو بابلو نيرودا، فأنا لا أتعدى أن أكون مواطنًا بسيطًا عاش فقيرًا فى قرية اسمها أبنود، ثم انتقلت إلى مدينة قنا لأعيش فى كنف والدي، بعد طول فراق، لتختلف الحياة قليلًا عما كانت، وما عدا ذلك هو رحلتى الخاصة». ولأنى خرجت من القرية وكأنى عصارتها، فقد حملت تاريخها وباطنها ووجهها فى الضمير - دون قصد- وسرت فى الحياة؛ فإننى فى هذه المشاهد التى يحويها هذا الكتاب والتى سأحاول استكمالها فى جزء آخر، إنما أحاول القبض على جوهر الروح ولب الفكرة التى تحكم حياة الإنسان المصرى الأصلى الذى لم يفقد الصفات القديمة للإنسان النيلى بعد». فى «أيامى الحلوة» بدا عشق «الخال» للأرض منذ نشأته طفلًا فى قريته الواقعة فى قلب الصعيد، ظل وفيًا لها فأعطته من خيرها الكثير، صال وجال فى ساحة الشعر والأغنية بينما يده ظلت قابضة على ما يربطه بها، كانت المدينة بالنسبة إليه مرحلة حتى لو طالت، وجد راحة السنوات الأخيرة بين ما زرعه بيده ورعاه كل يوم. يحكى «الخال» عن حياته وطفولته فى تلك الأرض، التى عشق ترابها، أوائل الخمسينيات، مؤرخًا فى كتابه النثرى الأشهر، الكثير من المواقف، منها أن أهل القرية فى تلك الفترة لم يكونوا قد رأوا طبيبًا رأى العين «وإنما كان طبيبنا هو ميراثنا الفولكلورى، مما خلفه الأجداد للأحفاد من وصفات وخبرات ومواد مصنعة من بيئتنا، إلى جانب أوراق الأشجار وحجارة الأرض المعطاءة، قبل أن تبنى لنا حكومة الثورة «الوحدة المجمعة» وتعين لنا طبيبًا خاصًا بأهالى قريتنا أبنود بمحافظة قنا جنوب مصر فى صعيدها الأعلى».