الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: العاهرات في الأدب المصري.. الضرورة والإدانة "2"

التمرد على الفقر الباب المفتوح للدعارة لدى «أديب الحارة»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نجيب محفوظ استخدم العاهرة لنقل تفاعلات المجتمع المصرى فى أربعينيات القرن العشرين
«محفوظ» تناول احتراف الدعارة باعتباره قرارًا اختياريًا نتيجة الخليط المعقد من الجمال والطموح والفقر
«محفوظ» نقل «حميدة» من فقر الزقاق إلى ثراء عالم الدعارة
العاهرة عند «أديب نوبل».. فتاة لا تعرف الرضا وراحة البال وطموحها غير المحدود 





إلى قرب نهاية الأربعينيات من القرن العشرين، كانت الدعارة العلنية قائمة فى مصر، ثم صدر القرار بإلغاء الدروب والبيوت المرخص لها بممارسة النشاط غير الأخلاقي، الذى يصطدم مع الثوابت الدينية والاجتماعية، وهو ما قوبل بالتهليل والإعجاب والتصفيق والإشادة، لكن النتيجة العملية لم تكن على النحو الذى يتوهمه المؤيدون المتحمسون، ذلك أن الدعارة السرية، غير الخاضعة للإشراف الحكومى والرقابة الطبية، تنتشر وتتوحش، وليس مثل النص الأدبى فى قدرته على التعبير عن مسيرة الدعارة وشخصية العاهرة فى مراحل مختلفة من التاريخ المصرى الحديث، فهو يعيد إنتاج الواقع ويسلط الضوء الساطع الكاشف على أسراره وخباياه. تتوقف الدراسة التى تُنشر فصولها تباعًا عند شخصية العاهرة فى إبداع: يحيى حقي، نجيب محفوظ، عبدالرحمن الشرقاوي، رفعت السعيد، بهاء طاهر، رفعت الفرنواني، علاء الديب، إسماعيل ولى الدين، جمال الغيطاني، يوسف القعيد، عمرو عبدالسميع، علاء الأسواني. فى التواصل مع نصوص هؤلاء ما يكشف عن تشابك الخطوط فى الظاهرة المعقدة، ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والأخلاقية. الدفاع عن الدعارة والعاهرات ليس مطروحًا أو ممكنًا بطبيعة الحال. 
حميدة، فى «زقاق المدق»، فتاة جميلة طموح فقيرة، ومن مزيج الجمال والطموح والفقر تتبلور ملامح شخصيتها ويتشكل مصيرها، تنتقل من اعتيادية الزقاق وحياته الراكدة الرتيبة، إلى عالم الدعارة بثرائه المادى وفقره الروحى.
حميدة فى العشرين من عمرها: «متوسطة القامة، رشيقة القوام، نحاسية البشرة، يميل وجهها للطول، فى نقاء ورواء، وأميز ما يميزها عينان سوداوان جميلتان، لهما حور بديع فاتن، ولكنها إذا أطبقت شفتيها الرقيقتين وحدَّت بصرها تلبستها حالة من القوة والصرامة لا عهد للنساء بها، وقد كان غضبها دائما مما لا يُستهان به حتى فى زقاق المدق نفسه».
الأب الراحل بائع للدوم بمرجوش، وتعيش حميدة مع أمها بالتبني، كانت أمها الحقيقية شريكة للأم البديلة فى تجارة «المفتقة والموغات»، «ثم شاطرتها شقتها بالزقاق فى ظروف سيئة، وأخيرا ماتت بين يديها تاركة طفلتها فى سن الرضاع، فتبنتها أم حميدة».

• مفاتيح الشخصية
الجميلة الفقيرة القوية الطموحة، ليست إلا يتيمة بلا أب أو أم، والحياة التى تعيشها مع أمها بالتبنى تبدو موغلة فى الفقر والشقاء والمعاناة، منقطعة الصلة بما تحلم به حميدة من متعة قوامها الملابس الفاخرة والطعام الجيد ومفردات الترف والثراء، تبدأ مأساتها الحقيقية من إدراكها لحقيقة أنها جميلة فى بيئة لا تقدر الجمال، بل إنها تتفنن فى تشويهه وإهانته، فى هذا الإطار، تتخذ حميدة من اليهوديات العاملات الأنيقات مثلا أعلى، وتقول لأمها بالتبني:
- ما قيمة هذه الدنيا بغير الملابس الجيدة؟! ألا ترين أن الأولى بالفتاة التى لا تجد ما تتزين به من جميل الثياب أن تُدفن حية؟!.
ثم امتلأ صوتها أسفًا وهى تقول مستدركة:
- آه لو رأيت بنات المشغل! آه لو رأيت اليهوديات العاملات! كلهن يرفلن فى الثياب الجميلة، أجل ما قيمة الدنيا إذا لم نرتدِ ما نحب؟
فقالت الأم باستياء:
- أفقدتك مراقبة فتيات المشغل اليهوديات عقلك، وهيهات أن يهدأ لك بال..».
حميدة لا تعرف الرضا وراحة البال، وطموحها غير المحدود يصنع السدود والقطيعة مع العالم الضيق الذى تنتمى إليه. فى المقابل، تعاديها نسوة الزقاق جميعهن، وتبادلهن حميدة الشعور نفسه، وتتخذ موقفا سلبيا متطرفا من الزقاق وساكنيه دون استثناء: «آه.. يا خسارتك يا حميدة!.. لماذا توجدين فى هذا الزقاق؟ ولماذا كانت أمك هذه المرأة التى لا تميز بين التبر والتراب؟».
تتمرد حميدة على حياة الزقاق بلا هوادة، ويكشف الروائى عن أهم مفاتيح شخصيتها فى قوله: «هى فتاة مقطوعة النسب، معدمة اليد، ولكنها لم تفقد قط روح الثقة والاطمئنان، ربما كان لحسنها الملحوظ الفضل فى بث هذه الروح القوية فى طواياها، ولكن حسنها لم يكن صاحب الفضل وحده، كانت بطبعها قوية، لا يخذلها الشعور بالقوة لحظة فى حياتها».
لا يلعب الدين دورا ذا بال فى حياة حميدة، وليس من مبادئ أو قيم تتكئ عليها فى سلوكها اليومى: «كانت الأخلاق أهون شيء على نفسها المتمردة، وقد نشأت فى جو لا يكاد يتفيأ ظلها، أو يتقيد بأغلالها. وزادها استهانة طبع جموح وأم مهملة قليلا ما تستكن فى بيتها، فانطلقت على سجيتها تخاصم هذه وتعاير تلك، فلا تعمل لشىء حسابًا، ولا تقيم لفضيلة وزنا».
العوامل كلها تهيئ للسقوط، لكن الآلاف من شبيهات حميدة قادرات على النجاة من السقوط، والانخراط فى منظومة الخريطة الاجتماعية التقليدية: الارتباط برجل، تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال، الخضوع للركود ومعطيات الفقر والقهر، لماذا تسقط فاتنة الزقاق فى هاوية الدعارة، وتنجو مثيلاتها قانعات بحياة لا تروقهن؟ تختلف حميدة لأن الرجال فى حياتها يسهمون بنصيب كبير فى تشكيل المصير السلبى الذى تئول إليه، فهى تعرف ثلاثة يلعبون أدوارا متباينة عظيمة الأهمية، والمشترك الوحيد بينهم هو المردود المدمر للعلاقة، «الحلاق عباس الحلو، التاجر سليم علوان، القواد فرج إبراهيم».
عباس الحلو حلاق شاب قنوع متواضع فلسفته الرضا، ومن فرط حبه لحميدة يتخلى عن المكان الذى يهيم به ويلتحق بالعمل فى معسكرات الإنجليز، مؤملا أن يدخر مالا يضمن للفتاة التى يقرأ فاتحتها حياة أفضل، ترتقى بها عن مثيلاتها من الراضيات بالنمط التقليدي. قبل أن يصارحها بحبه، تعرف حميدة أنه يهيم بها، لكنها تستقبل نظراته بمزيج من السخرية والاستهانة: «يسترق النظر إلى النافذة فى جمال ودلال، ولعله لا يشك فى أن هذه النظرة سترمينى عند قدميه أسيرة لهواه، أدركونى يا هوه قبل التلف»!.
عباس هو الأفضل فى الزقاق، ولذلك ترضى به حميدة دون اقتناع حقيقى أو حب صادق، فالأمر لا يتجاوز النظر إليه على ضوء مقارنته بالفرص المحدودة المتاحة: «وتولاها شعور بالحيرة والقلق لترددها بين الحرص عليه بوصفه الفتى الصالح لها فى الزقاق، والنفور منه نفورا لا ينهض على أسباب واضحة يُطمأن إليها، فلا ميل صريحا ولا نفورا صريحا. ولولا إيمانها بالزواج كنهاية طبيعية محتومة لما ترددت فى نبذه والقسوة عليه».
لأنها لا تحبه، فمن المنطقى ألا تتردد فى التخلى عنه والانتقال إلى التاجر الثرى سليم علوان، صاحب الوكالة ذى المكانة الاجتماعية المرموقة. على الرغم من أن حميدة أصغر من أصغر أبنائه، فإنه يتطلع إليها، ولا تغيب نظراته الحذرة عن الفتاة القادرة على إدراك ما يدور حولها. تعرف بطبيعة الحال أنه عجوز وزوج وأب، ولا تعرف أنه يشتهيها ولا يجد إليها سبيلا إلا الزواج، وإذ يتقدم لأمها خاطبا، توافق حميدة بلا تردد، دون تفكير فى عباس.
سليم هو الأكثر قدرة، بفضل إمكاناته المادية، على تحقيق الأحلام التى يستحيل الوصول إلى بعضها مع عباس: «هذه هى الثروة التى تحلم بها، هذا هو الجاه الذى تهيم به، وإنها من حب الجاه لفى مرض، وإن الشغف بالقوة لغريزة جائعة فى باطنها، فهل يُتاح لها شفاء أو ارتواء إلا بالثروة؟!».
بعد سقوط سليم فى براثن المرض المفاجئ، لا يبقى إلا عباس. تعيش حلما قصيرا يتحول سريعا إلى كابوس، ثم يظهر الرجل الثالث والأهم فى مسيرتها، القواد فرج إبراهيم الذى يقودها إلى عالم الدعارة.

• نقطة التحول
فرج هو أكثر من يفهم شخصية حميدة، ويتقن اللغة التى تناسبها. يخاطب فيها الطموح غير المحدود الذى يسكنها، ويعزز بكلماته المعسولة المحسوبة نفورها من حياة الزقاق والمستقبل المظلم الذى ينتظرها فيه: «أتصبحين يوما من عرائس المدق؟!. حبل وولادة، وحبل وولادة، إرضاع أطفال على الأرصفة، ذباب وبصارة وفول، ذبول وترهل؟!.. كلا.. كلا.. لا أريد أن أصدق هذا».
لم يكن سقوطها صعبا، وكان فرج بارعا فى إدراك طبيعتها: «فهى موهوبة بالفطرة، هى عاهرة بالسليقة.. وسوف تكون درة نادرة المثال».
تسقط حميدة فى شباك القواد المحترف، ولم تكن فى سقوطها ساذجة مخدوعة، ذلك أنها تعرف جيدا إلى أين تسير، وتودع الزقاق بلا مشاعر حب وتعاطف أو أحاسيس ندم. لا تخلو ليلتها الأخيرة فى الزقاق من هواجس ووساوس وتفكير فى الغد القريب، وتتساءل: «ترى ماذا يقولون عنى غدا؟. وجاءها الجواب فى كلمة واحدة: عاهرة! وتقبض قلبها حتى جف ريقها وذكرت كيف تلاحت مرة مع واحدة من صويحباتها بنات المشغل فسبتها صارخة: يا ربيبة الشوارع.. يا عاهرة!.. معيرة إياها بالعمل كالرجال والتسكع فى الشوارع. فما عسى أن يُقال عنها هي؟!.. وداخلها الحزن والأسى فتململت فى رقادها جزعا وضيقا.. ولكن شيئا فى الوجود لم يكن ليثنيها عما اعتزمت، أو يلوى بها عما اختارت، فقد اعتزمت بقوة أعماقها، واختارت بمجامع قلبها، فكانت تنحدر إلى مصيرها المحتوم لا يعوقها من وازع إلا ما يعوق المنحدر إلى الهاوية من دقاق الحصا».
قرار احتراف الدعارة اختياري، وليد الخليط المعقد من الجمال والطموح والفقر، وهى لا تجهل أن فرج إبراهيم قواد، ذلك أن الرجل يصارحها بكل شيء دون خداع أو وعود زائفة: «ولو كنت فتاة بلهاء لخادعتك، ولكنى قدرتك فآثرت معك الصراحة والحق. إن كلينا من معدن واحد، خلقنا الله للحب والتعاون، فإن اجتمعنا اجتمع لنا الحب والمال والجاه».
تستجيب حميدة واعية بالمصير الذى ينتظرها، ويتغير اسمها إلى «تيتي»، وتفتح صدرها للحياة الجديدة بحماس وهمة: «وتجلت مواهبها فبرعت فى فترة قصيرة فى أصول الزينة والتبهرج وإن سخروا أول الأمر من سوء ذوقها، فكانت سريعة التعلم محسنة للتقليد، ولكنها سيئة الاختيار لألوان ثيابها وفى ميلها إلى الحلى تبذل ملموس، ولو كان ترك الأمر على ما تشتهى وتحب لتبدت وكأنها «عالمة» فى زواقها الفاقع وحليها التى تكاد تغطى جسمها. وفيما عدا ذلك فقد تعلمت الرقص بنوعيه، ودلت على مهارة فى تعلم المبادئ الجنسية للغة الإنجليزية، ولم يكن النجاح الذى جاءها يجر أذياله بمستغرب، فتهافت عليها الجنود وتساقطت عليها أوراق النقود، وانتظمت فى سلك الدعارة لؤلؤة منعدمة النظير».
عاهرة بالسليقة كما يقول عنها القواد ذو الخبرة والفراسة، ولعل فى اندماجها السريع ونجاحها المدوى ما يبرهن على أنها أنموذج للعاهرة الكلاسيكية الموهوبة بالمقاييس المهنية السائدة فى منتصف الأربعينيات من القرن العشرين. مكاسب طائلة، وثروة بلا حدود، ورضا لا متسع فيه للندم أو الرغبة فى التوبة. إنها لا تمثل القاعدة، فالأغلب الأعم من عاهرات المرحلة نفسها واقفات فى خندق مختلف: «وعلى العكس من ذلك كانت غالبية الفتيات، اللاتى يضطربن فى مضمارها. فمنهن جماعة يتطاحن فى قلوبهن الأسماء والطمع والشقاء واليأس. ومنهن بائسات يشقين ليقمن أود أسرات جائعات، ومنهن تعيسات يخفين تحت شفاههن المصبوغة قلوبا دامية، ونفوسا حنانة إلى الحياة الفاضلة».
القواد فرج هو رجلها المناسب، وينقلب فى التعامل معها إلى جفاف عملى يثير غضبها، ولا تجد حميدة سبيلا إلى الانتقام إلا بتحريض عباس عليه، عندما تلتقى به مصادفة. كانت تؤمل أن يثير من حوله فضيحة تسوقه إلى يد القانون، فتنتقم منه وتخلص من أسره، ثم تشد الرحال إلى الإسكندرية التى سمعت عنها ولم ترها: «وهنالك تصفو لها الحياة وتطيب فى حرية لا يحدها قيد، وفى أمن من المتطفلين».
يسفر التدبير عن قتل عباس على أيدى الجنود الإنجليز السكارى، وتنال حميدة حريتها بعد تعرضها لإصابة غير مميتة، وتهرول أمها بالتبنى لتتصل بها كأن شيئا لم يحدث ويستدعى القطيعة والخصام: «وتحدثوا فى تلك الأيام عن اتصال أم حميدة بابنتها التى دخلت فى طور النقاهة والشفاء، وعما تحلم به المرأة من جنى ثمار هذا الكنز المترع»!
أهو التسامح أم الطمع؟!. الإجابة الصحيحة لا تعرفها إلا أم حميدة، لكن الإطار الموضوعى يشير إلى عودة الزقاق سريعا لمساره التقليدي، دون انشغال طويل بموت عباس وفضيحة حميدة، ذلك أن السياق الاجتماعى للمرحلة التاريخية يتسع للضحايا الأبرياء والساقطات المحترفات والنسيان السريع!
حميدة شخصية ثرية متعددة الأبعاد، وقد لا يتعاطف معها القارئ أو يشفق عليها، لكنه- فى الوقت نفسه- لن يبالغ فى الإدانة والتحامل، فهى جزء من خريطة الزقاق المعبرة عن تفاعلات المجتمع المصرى فى أربعينيات القرن العشرين، حيث الفقر واليأس والطموحات المفضية إلى السقوط!