الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

السيرة الهلالية.. ملحمة العرب التي خلدها "الأبنودي"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف: محمد لطفي وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبد الحكيم ومحمود عبدالله تهامى
تصوير: هشام محيى ومحمود أمين
بدأ فى جمعها مدة ثلاثين عامًا عقب هزيمة 67.. تقصى فيها فصولها من أفواه المنشدين والحكائين العرب تعلق فى طفولته بصوت «الحكواتى» فى الموالد وهو يروى فصولها غير المكتوبة.




يتداول الفلاحون فى قرية أبنود، مسقط رأس الخال عبدالرحمن الأبنودي، الذى نال لقبه من اسمها، حكاية عن «طاحونة قديمة» تقع على مقربة مما صار يُعرف الآن بـ«متحف السيرة الهلالية»، قيل إن «الخال» كان يجلس بها، وذكرت بعض الحكايات- نقلا عمن قيل إنهم كانوا مقربين منه- أن هذه الطاحونة شهدت العديد من الكتابات الشعرية؛ إلا أن هذه الطاحونة مهجورة ولم يقم أحد بزيارتها نهائيًا.
تُرى.. هل شهدت الطاحونة بداية تعلقه بالسيرة الهلالية؟ 
جاءت سيرة «بنى هلال» كملحمة متكاملة، لا تقل عن البطولات الأسطورية التى سجلها هوميروس لأبطال الإغريق، حاول العرب من خلالها الحفاظ على القيم العليا والمثل؛ إضافة إلى المتناقضات من الحب والنذالة والتبلد والتضحية، كأنها الحكاية التى حاولت توحيد العرب تحت راية عروبة واحدة. 
الحكاية تزيد على المليون بيت شعري، فى بعض الروايات، لتخرج فى النهاية عملًا تتجلى فيه الحكمة الشعبية العربية، فى تجل درامى من أجمل وأكمل ما عرفته البشرية من ملاحم، كان جوهر هذه الحكاية، هو زحف قبائل بنى هلال، فى منتصف القرن الحادى عشر الميلادي، من «هضبة نجد» بعدما جفت مياهها، ليستقروا فى تونس بحثًا عن حياة أفضل، وكان عددهم نحو ٣٦٠ ألف مقاتل، ونقل الأبنودى عن «ابن خلدون» أن القبائل زحفت إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى المستنصر بالله نتيجة للجدب.

كانت ساحات الموالد فى طفولة «الخال» قد اشتهرت بصوت «الحكواتي» الذى كان يتحرك بصندوقه الخشبى العتيق، وهو يروى بعض فصول السيرة الهلالية، وقتها تعلق الطفل عبد الرحمن، بتلك السيرة المحكية، غير المكتوبة، كان يكبر ويزيد افتتانه بعالم شعراء الربابة والغوازي، فى موالد عبدالرحيم القناوي، وهو يبحث عنها فى كل مكان فلا يجد سوى من يرويها، وكان يستمع إلى فصول مختلفة من السيرة التى اعتبرها البعض مجرد ترديد لمحفوظات من التراث الشعبى فقط، وكان البعض الآخر، يرى هؤلاء «الرواة» أشبه بالغجر الذين ظهروا فى عالم جابرييل جارسيا ماركيز، عندما كتب روايته الأشهر «مائة عام من العزلة» عبر حكاياتهم التى لا تنتهي.
بدأت رحلة الشاعر الكبير فى جمع «السيرة الهلالية» فى أعقاب هزيمة يونيو ١٩٦٧ المعروفة بـ«النكسة»، واستغرقت منه، ثلاثين عامًا، حاول من خلالها تقصى السيرة الهلالية فى أفواه المنشدين والحكائين العرب، ليتمكن من رصدها ونقلها من الذاكرة الشفهية الآخذة فى الاضمحلال، إلى اللغة المدونة والمكتوبة، حفاظًا عليها من الاندثار؛ تنوعت الرحلة ما بين السودان والجزائر وليبيا، بالإضافة إلى حدود تشاد والنيجر ثم إلى تونس الخضراء. 

أسطورة توازى «أبطال الإغريق»
الخال نقل عن «ابن خلدون» أن القبائل زحفت إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى نتيجة للجدب لا تتعرض لنمط أحادى البطولة ولا تبخس العدو بطولته وتفهم دوافعه وأسبابه فى حالة جدل بين أنداد.
أصل الحكاية.. تبدأ السيرة بـ«هلال» الجد البعيد، الذى تنتسب له القبيلة المحاربة - قبيلة بنى هلال- هو أحد رجال الإسلام الذين أبلوا أحسن البلاء، فى الدفاع عن الرسول فى غزوة تبوك- هذا ما تذكره السيرة- فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية، وفى اللحظة التى تبدأ فيها السيرة، يكون فارس بنى هلال المغوار هو «رزق بن نايل بن جرامون بن عامر بن هلال»، حامى حمى الحلف الهلالي.
وعبر ملابسات معينة يتزوج رزق من خضرة الشريفة ابنة الأمير قرضة الشريف حامى الحرمين، وحامل مفتاح الروضة الشريفة، وينجب منها أبو زيد الهلالى سلامة، ليكون بذلك جامعًا لطرفى المجد، فهو بذلك شريف من نسل النبى يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية.
أهم أحداث السيرة وملحمتها الأساسية ما يعرف بـ«الريادة» و«التغريبة» التى صنعت الاختلاف الكبير فى الروايات، وفى طريقة النظر لهذا البطل من ذاك، وهى موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل من نجد مخترقة مصر عابرة إلى المغرب العربي، بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع، واستوطنت تلك القبائل أرض تونس، بعد أن زحفت إليها، تسوق رجالها ونساءها؛ والثابت تاريخيًا أن قبائل هلال، وسليم، ودريد، والأثبج، ورياح، قد هاجرت من «نجد» من منتصف القرن الخامس الهجري، واستمرت موجات الزحف لما يقرب من القرن، وقد استطاع عبد المؤمن بن علي، إمام الموحدين، التصدى لها بعد أن وطن بعضها واستعان ببعضها على بعض.
وأصل الأمر أن هذا الزحف قد تم بتدبير الوزير اليازورى وزير الخليفة الفاطمى فى مصر، والذى منح المعز بن باديس- حاكم أفريقيا عام ٤٣٥ هجرية- لقب «شرف الدولة» وبدلًا من أن ينحاز المعز بعد هذه المنحة للخليفة الفاطمي، انحاز لعامة شعبه الذين قاموا بثورة ضد أصحاب المذهب الشيعى الإسماعيلي، وبالفعل أمام الثورة الشعبية نادى المعز، باتباع مذهب الإمام مالك وخطب فى المساجد للخليفة العباسى القائم بأمر الله، واعترف له الأخير باستقلال المغرب تحت إمرته.


لكن السيرة لا تذكر شيئًا عن الشيعى والسنى والخليفة الفاطمى والعباسي، بل تقدم مبررًا أخلاقيًا لهذا الغزو، وإن نوّهت ولو بشكل متوار على ما حدث، ففى السيرة أن الزناتى خليفة وحلفاءه قد طمعوا فى أرض يحكمها الأمير عزيز الدين بن الملك جبر القريشي، فاستولوا عليها بالخداع، فاستعان الشريف القريشى بأبناء عمومته من قبائل نجد، ليردوا الحق السليب لأصحابه الأشراف.
لكن فى رواية المغرب ستجد أن بطل السيرة هو الزناتى خليفة الذى وقف يدافع عن أرضه تونس وبلاده، ضد الغزاة الغاصبين المهاجمين من الشرق، والذين جاءوا ليستولوا على الأخضر واليابس بقيادة الوحش الأسود أبوزيد الهلالي، وفى تلك الرواية يظهر الزناتى فى أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة، بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبى المناضل فى السيرة، وهكذا يختلف منظور السيرة حسب زاوية النظر.
فى الوقت نفسه فإن الروايتين لا تقللان أبدا من قدر بطولة البطل الآخر، مع الاحتفاظ بكونه العدو، بل إن الرواية «المغربية» تعطى أبوزيد من الأوصاف والمقدرة والبطولة، ما يجعله لا يهزم البشر فحسب، بل «الجان» كذلك؛ كما أن الرواية الشرقية تعطى الزناتى من أبيات المدح فى مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الأخرى، كذلك فإن كلا البطلين لا ينكر قيمة الآخر، بل يكيلان المديح لبطولة الآخر، بل إن كل بطل، لا يواجه آخر فى السيرة، إلا ويعظم من قيمة خصمه، ربما ليكون لمضاعفة قيمة الانتصار عليه.
كذلك فثمة رواية ثالثة فى الجنوب تنتصر لدياب بن غانم، رغم أنه ليس هلاليًا أصيلًا، بل من «الزغابة»، وهى قبيلة من قبائل ملحقة بالحلف الهلالي، وهى فى المرتبة الثانية من حيث إنهم ملحقون ومحتمون بالهلالية، ودياب مع قوته وعنفوانه يحاول دائما الاستيلاء على السلطة فى غيبة أبوزيد الذى يردعه، وهو نفس ما يفعله فى تونس مع الزناتي، لكن رواية الجنوب لا تراه رمز الخسة والبطش، بل تراه البطل المناوئ، هو ليس من السادة والأكابر، وليس من بيت الحكم، لكنه الأمل الذى يمكن للصاعد من أسفل إذا ما اجتهد أن يناله فيكون بذلك قد نال ما يستحق.
السيرة إذن ليست تعرضا لنمط أحادى من البطولة، ولا تبخس العدو بطولته، بل تفهم الدوافع والأسباب، ومبررات السلوك، وهى بذلك حالة جدل وتحاور بين أنداد على نحو ما، تصلح دائما للاستلهام.


«عبقرية الخال».. تخليد «السيرة» فى حلقات إذاعية وتليفزيونية
نهال كمال.. حضور افتتاح «متحف السيرة الهلالية» هو الحلم الذى راوده طوال حياته حتى وفاته
تمخضت رحلة الأبنودى عن خمسة مجلدات، أولها «خضرة الشريفة»: وتتضمن حكاية رزق بن نايل بن عامر بن هلال زعيم الهلاليين وما تعرض له من متاعب، وكيف أعجبت به خضرة بسبب ما تمتع به من صفات جمة كحسن الخلق والشهامة؛ «أبوزيد فى أرض العلامات»: وهو مجلد يروى كيف عاشت خضرة خمس سنوات تحت رعاية الملك فاضل وما حدث لأبى زيد وما ناله من مركز؛ «مقتل السلطان سرحان»: وفيه يتنكر أبوزيد فى زى شاعر ربابة ليدخل قصر حنظل، وكيف اكتشفت ابنة السلطان حقيقته، وأفشت أمره إلى والدها، وكيف ألقى القبض عليه، وقيد بالسلاسل ورمى فى السجن فى انتظار أن يعدم؛ «فرس جابر العقيلي»: وفيه يروى كيف قاتل أبوزيد الهلالى الفرس وبطولاته فى جهادهم التى تناقلتها الأجيال، وكيف يحتال الدرويش لدخول جناح الأميرة ليعمل لها الحجب والتعاويذ؛ أما فى «أبو زيد وعالية العقيلية»: يتم سرد حكاية حياة عالية، وما تتمتع به من خصال، وإصرارها على القضاء على أبوزيد الهلالي، والمأدبة التى أولمها والدها السلطان جابر العقيلى لأبوزيد ومرافقيه، ومحاولة أخذ فرسه بالحيلة بعد أن وضع فى الطعام مخدرًا قويًا لينام الحراس، لكن أبوزيد يكتشف الحيلة ويتمكن من الفرار خارج المدينة.

لم يكتف الأبنودى بأن يكون أول من جمع السيرة الهلالية مكتوبة، ولكنه قرر أن يقدم تلك الملحمة التراثية فى إلقاء مسموع عبر الإذاعة المصرية عن طريق تسجيل شرائط متعددة يروى فيها الملحمة بصوته، ويحكى رواية «أبوزيد وخليفة» التى انتهت بمقتل الأخير؛ وكانت الإذاعة بوابته الثانية لترسيخ تراثه؛ ثم انتقل الأبنودى إلى مرحلة جديدة فيجلس هذه المرة فى أحد الاستوديوهات ليسجل تسعين حلقة يروى فيها السيرة الهلالية بأكملها عام ٢٠١٠، وهى الحلقات التى أنتجها قطاع الأخبار بالتليفزيون المصرى، الذى أراد إعادة جمعها لتصبح وثيقة مصورة من ذلك التراث.
وروى «الخال» قصص الملحمة كاملة، فحكى عن رجوع كل بنى هلال من نجد والحجاز إلى العراق ثم الاتجاه إلى تونس، إلا أن تلك المرة رافقه فيها الشاعر سيد الضوى الذى قدم معه الروايات، وكانت المقدمة من غناء النجم محمد منير الذى تغنى بنفس كلمات عم جابر.
فى حديثها إلى «البوابة» أكدت الإعلامية الكبيرة نهال كمال زوجة الخال الراحل، أن الحلم الذى كان يراوده طوال حياته، حتى اللحظات الأخيرة قبيل وفاته، هو حضوره بنفسه افتتاح «متحف السيرة الهلالية» الذى أقيم بالقرب من الطاحونة القديمة التى شهدت أولى أيام تعلقه بالحكايات.