الأربعاء 08 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

أسطورة توازي "أبطال الإغريق"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أعد الملف: محمد لطفى وياسر الغبيرى وأحمد صوان وأميرة عبدالحكيم ومحمود عبدالله تهامي
تصوير - هشام محيى ومحمود أمين
الخال نقل عن «ابن خلدون» أن القبائل زحفت إلى مصر فى عهد الخليفة الفاطمى نتيجة للجدب لا تتعرض لنمط أحادى البطولة ولا تبخس العدو بطولته وتفهم دوافعه وأسبابه فى حالة جدل بين أنداد.



أصل الحكاية.. تبدأ السيرة بـ«هلال» الجد البعيد، الذى تنتسب له القبيلة المحاربة - قبيلة بنى هلال- هو أحد رجال الإسلام الذين أبلوا أحسن البلاء، فى الدفاع عن الرسول فى غزوة تبوك- هذا ما تذكره السيرة- فاستحق بذلك التمجيد، ونال نسله فخر البطولة وشرف الفروسية، وفى اللحظة التى تبدأ فيها السيرة، يكون فارس بنى هلال المغوار هو «رزق بن نايل بن جرامون بن عامر بن هلال»، حامى حمى الحلف الهلالي.


وعبر ملابسات معينة يتزوج رزق من خضرة الشريفة ابنة الأمير قرضة الشريف حامى الحرمين، وحامل مفتاح الروضة الشريفة، وينجب منها أبو زيد الهلالى سلامة، ليكون بذلك جامعًا لطرفى المجد، فهو بذلك شريف من نسل النبى يأخذ ويرث من ناحية أمه الحكمة والعلم، ومن ناحية أبيه مجد البطولة وعنفوان الفروسية.


أهم أحداث السيرة وملحمتها الأساسية ما يعرف بـ«الريادة» و«التغريبة» التى صنعت الاختلاف الكبير فى الروايات، وفى طريقة النظر لهذا البطل من ذاك، وهى موجة هجرة كبيرة قامت بها قبائل من نجد مخترقة مصر عابرة إلى المغرب العربي، بعد ما مر بهذه الأرض من مجاعة أهلكت الجميع، واستوطنت تلك القبائل أرض تونس، بعد أن زحفت إليها، تسوق رجالها ونساءها؛ والثابت تاريخيًا أن قبائل هلال، وسليم، ودريد، والأثبج، ورياح، قد هاجرت من «نجد» من منتصف القرن الخامس الهجري، واستمرت موجات الزحف لما يقرب من القرن، وقد استطاع عبد المؤمن بن علي، إمام الموحدين، التصدى لها بعد أن وطن بعضها واستعان ببعضها على بعض.


وأصل الأمر أن هذا الزحف قد تم بتدبير الوزير اليازورى وزير الخليفة الفاطمى فى مصر، والذى منح المعز بن باديس- حاكم أفريقيا عام ٤٣٥ هجرية- لقب «شرف الدولة» وبدلًا من أن ينحاز المعز بعد هذه المنحة للخليفة الفاطمي، انحاز لعامة شعبه الذين قاموا بثورة ضد أصحاب المذهب الشيعى الإسماعيلي، وبالفعل أمام الثورة الشعبية نادى المعز، باتباع مذهب الإمام مالك وخطب فى المساجد للخليفة العباسى القائم بأمر الله، واعترف له الأخير باستقلال المغرب تحت إمرته.
لكن السيرة لا تذكر شيئًا عن الشيعى والسنى والخليفة الفاطمى والعباسي، بل تقدم مبررًا أخلاقيًا لهذا الغزو، وإن نوّهت ولو بشكل متوار على ما حدث، ففى السيرة أن الزناتى خليفة وحلفاءه قد طمعوا فى أرض يحكمها الأمير عزيز الدين بن الملك جبر القريشي، فاستولوا عليها بالخداع، فاستعان الشريف القريشى بأبناء عمومته من قبائل نجد، ليردوا الحق السليب لأصحابه الأشراف.



لكن فى رواية المغرب ستجد أن بطل السيرة هو الزناتى خليفة الذى وقف يدافع عن أرضه تونس وبلاده، ضد الغزاة الغاصبين المهاجمين من الشرق، والذين جاءوا ليستولوا على الأخضر واليابس بقيادة الوحش الأسود أبوزيد الهلالي، وفى تلك الرواية يظهر الزناتى فى أقوى وأروع آيات البطولة، ثم المقاومة، بعد الاحتلال، وهو نموذج البطل الشعبى المناضل فى السيرة، وهكذا يختلف منظور السيرة حسب زاوية النظر.
فى الوقت نفسه فإن الروايتين لا تقللان أبدا من قدر بطولة البطل الآخر، مع الاحتفاظ بكونه العدو، بل إن الرواية «المغربية» تعطى أبوزيد من الأوصاف والمقدرة والبطولة، ما يجعله لا يهزم البشر فحسب، بل «الجان» كذلك؛ كما أن الرواية الشرقية تعطى الزناتى من أبيات المدح فى مآثره وشجاعته وجسارته ما يفوق الأخرى، كذلك فإن كلا البطلين لا ينكر قيمة الآخر، بل يكيلان المديح لبطولة الآخر، بل إن كل بطل، لا يواجه آخر فى السيرة، إلا ويعظم من قيمة خصمه، ربما ليكون لمضاعفة قيمة الانتصار عليه.


كذلك فثمة رواية ثالثة فى الجنوب تنتصر لدياب بن غانم، رغم أنه ليس هلاليًا أصيلًا، بل من «الزغابة»، وهى قبيلة من قبائل ملحقة بالحلف الهلالي، وهى فى المرتبة الثانية من حيث إنهم ملحقون ومحتمون بالهلالية، ودياب مع قوته وعنفوانه يحاول دائما الاستيلاء على السلطة فى غيبة أبوزيد الذى يردعه، وهو نفس ما يفعله فى تونس مع الزناتي، لكن رواية الجنوب لا تراه رمز الخسة والبطش، بل تراه البطل المناوئ، هو ليس من السادة والأكابر، وليس من بيت الحكم، لكنه الأمل الذى يمكن للصاعد من أسفل إذا ما اجتهد أن يناله فيكون بذلك قد نال ما يستحق.
السيرة إذن ليست تعرضا لنمط أحادى من البطولة، ولا تبخس العدو بطولته، بل تفهم الدوافع والأسباب، ومبررات السلوك، وهى بذلك حالة جدل وتحاور بين أنداد على نحو ما، تصلح دائما للاستلهام.