السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

حوارات

الكاتب طارق إمام في حواره لـ"البوابة نيوز".. أنا من سلالة "ماركيز".. لدينا روائيون عرب لغتهم واحدة جاهزة لا تتغير.. وكتاب الستينيات اكتفوا باجترار أسلوب "محفوظ"

الكاتب طارق إمام
الكاتب طارق إمام في حواره لـالبوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يغرِّد الكاتب طارق إمام، فى كتابه «مدينة الحوائط اللانهائية»، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، مطلع العام الجاري، خارج سرب الألوان الأدبيّة التقليديّة، فلا يندرج الكتاب ضمن نوع أدبى بعينه، أكان مجموعة قصصية، أو رواية، وإنما هو أشبه بخيوط سرديّة تلفّها ضفيرة واحدة، وهو يبدو فى ذلك وكأنه ينطلق من الوفاء لرغبته فى التحرّر من النمط التقليدى فى الكتابة، التى بدت فى أعمال أُخرى له مثل رواية «ضريح أبي»، وغيرها. حكايا الكتاب الخرافية تدور جميعها فى مدينة لا وجود لها فى الواقع، هى «مدينة الحوائط»، التى تمثل مكانًا غريبًا يفوق عدد حوائطه عدد شوارعه، وفيها تعيش شخصيات عجيبة لكل منها حكاية مثل القرصانة، والإسكافى المجنَّح، والحذاء الذى يتكلم، والرجل الذى لم يحلم أبدًا، والملاك الذى يعيش بين البشر، والمرأة ذات العين الواحدة، وغيرها. وهو ينطوى على 36 حكاية خرافية كتبها «إمام» خلال عشر سنوات، ما بين أعوام 2007 إلى 2017، قبل أن يقرر أخيرًا نشرها ككتاب مجمع، بعد أن نشر بعض نصوصها قبل ذلك فى عدة دوريات. التقينا طارق إمام الذى صدر له قبلا رواية «هدوء القتلة»، و«ضريح أبي»، و«الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس»، وأجرينا معه هذا الحوار:

الوفاء إلى «الفانتازيا» حاضر لديك فى «ضريح أبي» وفى عملك الأخير «مدينة الحوائط اللا نهائية»، والفانتازيا باتت أشبه بصيحة أدبيّة فى السنوات الأخيرة.. كيف ترى ذلك؟
لا يمكن اعتبار ذلك وليد اللحظة، فأنا حين بدأت الكتابة فى التسعينيات، وبالتحديد حين نشرت أول مجموعة قصصية لى بعنوان «طيور جديدة لا يفسدها الهواء» فى 1995 فى دار شرقيات للنشر، وكانت حينئذٍ إحدى الدور المعروفة بصيتها الذائع، ووجهت من التيار السائد وقتها باستجابة غريبة بعض الشيء، لأن السائد حينذاك كان أننا نكتب فقط عمّا نراه، ونعبِّر عن الأشياء البسيطة اليومية العابرة، فكان الواقع وحده هو ما يجدُر بنا أن نصفه ونصوِّره، و«طيور جديدة لا يفسدها الهواء» كانت مجموعة فانتازية بامتياز، وقد بدت أشبه بطفل يتيم فى تلك المرحلة المبكرة، وأنا منذ البداية، قبل حتى أن تصقلنى الثقافة والقراءات، كنت أرى العالم من بوابة الخيال، وأرى أن طريقتى الشخصية فى التعبير عن الواقع إنما تتغذّى عبر الابتعاد عنه لأمتار أو كيلومترات، فالمهم أن لا يعبَّر نصّى عن الواقع كما هو، وقد أعربت بكتابتى عن تلك الرغبة فى فترة تسود فيها الكتابة الواقعية، سواء فى قصيدة النثر، أو الرواية، أو القصة، وكانت المسافة بين الذات الواقعية والمُتخيَّلة فى كتابات تلك الفترة تكاد تكون معدومة، وهى صرعة أدبيّة أنتجت أشكالًا فائقة وجميلة من الكتابة بلا شك، لكننى كنت أكتب على هامش ذلك التيار بشكل واضح، وقد استمر معى هذا النزوع فيما بعد فى كل أعمالي.
الواقع أننى كنت أكتب القصة وأنشرها فى مجلات أدبيّة منذ سن الرابعة عشر، غير أن ذلك النزوع، وتلك الرغبة، تبلورا لدىّ بنشر مجموعتى الأولى فى سن الثامنة عشر، لأن الكتاب فى النهاية هو ما يبرزك وليس القصص المتفرِّقة، ومن هنا فحكايتى مع الفانتازيا هى حكاية قديمة.
أمّا فيما يخص الهجوم على فكرة الكتابة الفانتازية، فأنا أوافقك أنها أصبحت أشبه بموضة أدبية، بل إن بعض الكتّاب الذين عُرفوا فى وقت ما بموقفهم السلبى من الفانتازيا، باتوا يعلنون مع اقتراب صدور كتبهم الجديدة أنها ستكون كتبا فانتازية، وكأن الفانتازيا باتت ضمانة للانتشار بشكل ما، وككل تيار فى العالم، هناك جانب أصيل، وجانب آخر يبحث عن مسايرة الموضة، ومن هنا قال بعض الكتّاب فى أنفسهم إذا كان بعض كتاب الفانتازيا قد حصلوا على جوائز كبرى، إذا فلنكتب الفانتازيا. علينا أن نقول إن البعض أصلاء، وتلك هى طريقتهم الخاصة فى رؤية الواقع وتصويره، وأنا أؤكِّد على كلمة الواقع، لأن الفانتازيا لا تتنكَّر للواقع وتدير ظهرها له بأى حال، إنما هى طريقة أُخرى فى رؤيته، فلم تكن السريالية بعيدة عن الواقع، وكذلك كانت الدادية، وتكعيبية بيكاسو، وغيرهم، فكل التيارات الأدبية فى النهاية تصب فى الواقع، ولكن السؤال هو كيف تتناول الواقع، هذا هو سؤال الفن الأساسي.

هل تظن أن بعثرة الأوراق التى تسبَّبت بها ثورة 25 يناير أدَّت للنزوع إلى الفانتازيا بشكل أكبر؟
كل التيارات التى تنشأ لا تظهر من فراغ، فإذا ما نظرت مثلًا إلى تيار العبث الذى ظهر فى أوروبا إبّان النصف الأول من القرن الماضي، برموزه «يونسكو»، و«بيكيت»، و«أرابال»، وآخرين، ترى أنه برز بشكل أكبر بعد الحرب العالمية الثانية، بعدما شعروا أن العقل الإنسانى الذى تبنّته الحداثة وأعلت من شأنه قد أفلس، وأن المنطق قد فقد جدواه، وأن الحداثة بقيمها لم تفض إلّا إلى القتل، والدمار، والفناء، فما كان حينئذٍ إلّا اللجوء إلى العبث، لأنه لم يعد بالإمكان قراءة الواقع عبر التوسّل بذلك الواقع الذى أدّى إلى إهدار كل هذه الدماء، وكل ذلك القتل.
من هنا بزغت كل تلك المدارس التى تسعى إلى قراءة الواقع عبر وسائل تخالِف العقل، وأعلن بعض الفنانين أنهم سيقرأونه بالوجدان، أو الأحلام، أو باعتباره عبثًا، ولوحة «چرنيكا» لبيكاسو تلخِّص كل ذلك، تلك اللوحة المكوَّنة من أشلاء، اعتراضًا، وإدانةً لهذا العالم.
أمّا فيما يخص الثورة المصرية، فإن ثورة يناير بإجهازها على فكرة الأب، أو البطريرك، أو السلطة الواحدية، لأول مرة ربما فى تاريخنا، بهذا الزخم الشعبي، قتلت، فيما قتلت، فكرة الواحديّة، واحدية الفكر، وواحدية الخطاب، وواحدية الأب الذى يملك الحقيقة، وعلى نفس المنوال، قتلت فكرة الزاوية الوحيدة لتلقِّى الفن أو لكتابته، وقُتلت الفكرة التى كانت تقضى بأنك كلما ابتعدت عن الواقع فى تناولك أصبحت مُدانًا، وكلما كنت قريبًا منه، أمينًا عليه، تم الاحتفاء بك، ونحن نملك فى تراثنا الثقافى العربى جملة ربما لا تجدها لدى غيرنا وهى «رواية أو فيلم يمثِّل نقلًا أمينًا للواقع»، تلك الجملة متجذرة لدينا، بدايةً من رواية «زينب»، ومرورًا بأفلام السينما المصريّة، وهى قارّة فى الوعى العام، غير أن الانزياح عن تلك النظرة التراثية قد بدأ، وبتنا نرى شكلًا من أشكال التعدديّة فى الكتابة، يوازى التعددية الموجودة فى الشارع المصري، فمع الثورة، ظهرت تعدديّة من نوع آخر، نتجت عن التفات كل فرد إلى نفسه، فأصبح كل من يعبّر عن رأيه يقول «أنا أمثِّل نفسي»، لئلا يُدرج ضمن أحد التيارات، ولا شك أن ذلك المناخ كان له انعكاس على الكتابة بوصفها الفعل الأكثر تعبيرًا عن الحريّة، فأصبح هناك تجرؤ فى مقاربة الواقع بأكثر من شكل، بعدما كانت هناك سيادة لشكل الأدب الواقعي، وهى سيادة متوطِّنة منذ سنوات بعيدة، فحتى جيل الستينيات، عدد قليل من كتّابه هو الذى تقدَّم بمشروع نجيب محفوظ خطوة إلى الأمام، لأن مشروعه الذى بدأ بالكتابة عن مصر القديمة، انتهى بالحرافيش، وأولاد حارتنا، وحديث الصباح والمساء، وأحلام الفترة النقاهة، التى تقترب من الشعر، وكان فيها انزياحًا من نجيب محفوظ عن محفوظ الروائى الحكَّاء، إلى محفوظ الشاعر، صاحب الومضة واللحظة.
قلّة فقط هم من حاولوا المضى بمشروعهم إلى الأمام، أذكر من بينهم جمال الغيطاني، وخيرى شلبي، بينما جزء كبير من هذا الجيل كرَّس جهده لاجترار الكتابة الواقعية التى اتسم بها المشروع المحفوظى وأعاد إنتاجها، وبسبب هذا الوفاء المبالغ به للكتابة الواقعية، واجهت كتابتى فى البداية اغترابًا شديدًا على المستوى النقدى، وعلى مستوى القراءة، إلى الحد الذى دفع ناشر كتابى الأول إلى رفض كتابة «قصص» على غلافه، لأنها اتسمت بالمزج بين القصة والشعر، بالإضافة إلى أنها كانت محلِّقة تمامًا فى الفانتازيا، فكان من الطبيعى أن يسأل نفسه فى ظل ذلك المناخ أين الواقع، وأين الحكي، بل حتى بعض النقّاد تناولوا أولى مجموعاتى بوصفها ديوان ينتمى إلى قصيدة النثر! غير أن الأمور تتغيَّر بمرور الوقت، وما أدل على ذلك إلّا نفاد الطبعة الأولى لكتابى الأخير مثلًا خلال فترة قصيرة.
وعلى ذكر ذلك، فإن الطبعة الثانية للكتاب ستصدر خلال الفترة القادمة.

بطلك فى «هدوء القتلة» كان شاعرًا وقاتلًا فى الوقت نفسه.. هل أردت أن تقول إن الإنسان لا يتحقّق إلّا بتآزر غريزتى الحياة والموت معًا؟
هذا جزء من المسألة. سؤال الأدب الأساسى ليس الواقع، وإنما سؤال الثقافة، لأن كل ما يشكّلك ويحرِّكك فى العالم هو ثقافتك، الثقافة التى تنشأ وتتربّى عليها، والثقافة فى الأساس هى التى تشكِّل الواقع، وليس العكس، فالفتاة المحجبة مثلًا، هى تبدو لك فى الواقع محجبة لا أكثر، لكن فعل التحجّب نفسه هو نتاج للثقافة، لا العكس، وما يجعل شارعًا فى أوروبا يختلف عن شارع فى مصر هو الثقافة، فالثقافة تخلق الواقع، ونحن فى ثقافتنا العربية المتوارثة لدينا فكرة الثنائيات، ودائمًا هى ثنائيات قيمية، فتجدنا نفرّق مثلًا بين اليد اليمنى واليد اليسرى، فاليمنى هى للمدح، واليسرى هى الهامشية، وفى بعض المناطق الريفية مثلًا حين يجد الأهل طفلهم يأكل بيده اليسرى، ينهرونه ويضربونه، لاقتناعهم أنه من الأفضل أن يستخدم يُمناه وليس العكس.
نحن محكومون بتلك الثنائيات، الزوجة والعشيقة، العمل والهواية، كل شيء لدينا محكوم بهذه الثنائيات، ولا نفكر ولو للحظة أننا أنفسنا هذه الثنائية، فتلك الثنائية لا تتميّز بالتعارض بين عنصريها، ولذلك فالبطل لدىّ كان يقتل بيده اليمنى، ويكتب بيده اليسرى، وهما يدان فى جسد واحد، وفى أكثر من مشهد فى الرواية كان يستيقظ على شجار بين اليدين، فإحداهما تريد أن تفتك بالأُخرى لتحيا على حسابها، ولكنه رأى أنه لا بد أن يقتل بيد، إذا أراد أن يكتب باليد الأُخرى.
الكتابة هى فعل الخلق، بينما القتل هو فعل الإبادة والإفناء، فكيف يمكن أن يستقيما معًا فى جسد واحد، الواقع أنهما لا بد أن يتحدا معًا بالمعنى الواسع، فكلنا هذا الشخص الذى يحمل بداخله هذه الثنائية، ولا سبيل إلّا إلى إذابة تلك الثنائيات، تلك هى القضية التى شغلتنى ودفعتنى لكتابة الرواية، الجمع بين الكتابة والقتل، بين قدرة المرء على أن يحيى ويميت فى الوقت نفسه.
وبخلاف ذلك، فقد تعرَّضت فى هدوء القتلة إلى المدينة، وبالذات القاهرة، تلك المدينة العامرة بأشخاص وحيدين، فأنا مفتون بتناول العلاقة بين الفرد والمدينة، المدينة ذلك الكيان الجمعي، الصورة الكبيرة، بينما الفرد هو الذات الهامشية المطرودة من جنة الجميع، ولذلك فحين كتبت رواية تاريخية مثلًا، كتبت عن «قسطنطين كافافيس»، وعلاقته كشاعر بمدينة الإسكندرية.

لماذا استدعيت شخصية «كفافيس» بالتحديد للكتابة عنها؟
«الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس» هى حلقة فى ثلاثية روائية أحلم أن أكملها، عن علاقة شخص مهنته هى الكتابة فى الأساس بمدينة، أو علاقة الفرد بالمدينة بالنظرة الأشمل، وقد أنجزت ذلك بشكل جزئى فى «هدوء القتلة»، بتصوير علاقة البطل بمدينة القاهرة، وظللت أفكر فى كفافيس لأكثر من سبب، أولها أن التاريخ يحظى بقداسة ما، ويكاد يكون اللعب مع التاريخ، أو العبث به، أو محاولة إعادة تأليفه، شيئًا محرمًا، غير أن الواقع يقول إن التاريخ لا يحمل أى قداسة إلّا قياسًا إلى الزاوية التى تراه منها، فنابليون فى بلاده فاتح عظيم، ولدينا هو مستعمر، وكل شيء فى التاريخ تتغيَّر النظرة له تبعًا لانحيازك، وتبعًا لموقعك من الواقعة، وموقعك من الشخص التاريخي، فكفافيس نفسه مثلًا كان شخصًا مثليَّا، يمكن أن يدينه ببساطة شخص ضد المثلية، ويختصره فى هذا الجانب، وهناك جانب آخر، فكفافيس لم يكتب بالعربية، ولكنه لُقِّب بشاعر الإسكندرية، وهو أمر أثار لدىّ التساؤل، فكيف يمكن أن يكون شاعر الإسكندرية، المدينة المصرية، حتى وإن كانت مدينة كوزموبوليتانية تجمع أبناء جنسيات وثقافية مختلفة، بينما هو لم يكتب حرفًا بالعربية، ولم يجِد اللغة العربية، بل إنه غادر الإسكندرية فى مرتين، الأولى حين ضربت بقنابل الإنجليز فى 1882، والأُخرى مع قيام الحرب العالمية الأولى، رحل مرة إلى لندن، ومرة إلى الأستانة، فكان يفر فى كل مرة تتعرَّض فيها المدينة للخطر، وكان يعود بعودة الأمن والهدوء، كنت أريد أن أطرح سؤالًا تاريخيّا مفاده بأى معنى يمكن أن نطلق على كفافيس شاعر الإسكندرية، والسؤال الثانى الذى أردت طرحه كان عن طبيعة علاقته بالمدينة وهو الشخص المنبوذ من الناحية الأخلاقية، ومن الناحية اللغوية. وبالإضافة إلى ذلك أردت أن أصوّر التأثير المتبادل بيننا وبين المدينة بشكل عام.
وبالعودة إلى الثلاثية التى قلت إنى أحلم بإكمالها، بعد «هدوء القتلة»، و«حياة كفافيس»، فمن المفترض لها أن تكتمل بتناول حياة الشاعر «جوزيبى أونجاريتي»، الذى نشأ بالإسكندرية أيضًا، وهو إيطالى هاجر من الإسكندرية إلى إيطاليا، وبات أحد أهم شعراء تيار «المستقبلية» الشهير، وأحد مؤسسيه، وقد أجاد اللغة العربية، وكتب عن الإسكندرية المدينة المصرية، بخلاف كفافيس الذى كتب عن الإسكندرية الهيلينية التى حوت الأجناس الأوروبية، وهو ابن لأب إيطالى مات أثناء عمله بالسخرة فى شق قناة السويس، وهى واقعة كانت مثيرة للتساؤل بالنسبة لي.

كيف ترى اللغة فى الأدب؟ هل هى حاوية لعناصر العمل الأدبى أم أنها جزء أساسى داخل فى النسيج الروائى كالشخصيات والزمان والمكان؟
اللغة بطل فى النص الأدبى من وجهة نظري، لأن النص الأدبى ليس سوى محاولة لتصوّر العالم من خلال اللغة، فأداتك الوحيدة وأنت تكتب هى اللغة، فضلًا عن أن اللغة فى الأدب ليست هى لغة الإيصال فقط، كلغة الصحافة مثلًا، أو كلغة الشارع العادي، وإنما هى لغة تملك قدرًا من الكثافة، وقدرًا من الإيحاء، لأنك فى الأدب لا تقرِّر، لأنك لا تملك الحقيقة، فاللغة التى تقرِّر، هى اللغة التى يدعى صاحبها أنه يملك الحقيقة، والأدب بالنسبة لى يسأل ولا يجيب، ولو أنى أملك إجابات لما كتبت، وإذا كان السؤال هو بطلي، فيجب على اللغة أن تكون قلقة بنفس قدر قلق السؤال، فلا يمكن أن تكتب عن مسألة تقلقك، بينما تبدو لغتك مطمئنة، وجاهزة، وموروثة عن أحد السابقين عليك، وبالمناسبة، لا وجود فى الأدب للغة جاهزة قبل النص، فالنص دائمًا هو الذى يصنع لغته، وبالنظر إلى جابرييل جارسيا ماركيز كنموذج، فقد كتب رواية «خريف البطريرك» دون فواصل أو نقاط، سيرًا على خطى تقنية تيار الوعي، وقد فشلت تجاريًا، وكتب «سرد أحداث موت معلن» بلغة التحقيق الصحفي، وكتب «مائة عام من العزلة» بلغة أقرب إلى لغة الحكى الشفاهي، والحكايات التى تتوالد من حكايات، متأثّرًا بألف ليلة وليلة، فى كل الأحوال هو ماركيز، لكن حكايته هى التى تنتج لغتها، فأنت لا تلج نصّك بلغة معدَّة مسبقًا ولا ينقصها سوى أن تعبِّئ بداخلها الحكاية، وهذا جزء من مشاكل الرواية العربية، فنحن لدينا روائيون عرب مشهورون ومعروفون لديهم لغة واحدة، جاهزة، فى كل نصوصهم، ولا يمكن لأحد أن يسأل سؤالًا جديدًا بلغة جاهزة، وليس فى إمكان أحد يستخدم لغة مطمئنة، وهادئة، أن يورّطنى فى قلقه.
وعلينا أن نقول أيضًا، إن الرواية ليست مجرَّد حكي، لأن كل شخص يمشى فى الشارع يملك روايته، بل إن أشخاصًا كثيرين يملكون حكايات أعظم بكثير من تلك التى سردها نجيب محفوظ، أو دوستويفسكي، أو شكسبير، غير أن ما يجعل الحكاية لدى الكاتب الكبير رواية عظيمة وليست مجرّد حكاية، هو أن الكاتب يستطيع أن ينقل الحكاية من حيِّزها الضيق الذى يخص شخصًا بعينه، إلى حيِّز واسع يجعل الإنسانية بكليّتها تتورَّط فى سؤالها، فالكاتب يلتقط الحكاية العابرة، ويفرغ من جعبتها كل المضامين العميقة الكبيرة التى تجعل شخصًا لم يعش فى مصر، ولم يعرف شيئًا عن القاهرة، يتورَّط فى سؤالك، ويخرج معك بسؤال وجودى يخص الحياة والموت، والوجود والعدم، ويخص كل الأسئلة التى يطرحها العالم، بينما صاحب الحكاية الذى لا يستطيع أن يكتبها، يظل صاحب حكاية تمثِّله وحده دون غيره.
ومن هنا على الكاتب أن يستنطق فى الحكاية المضامين والمرامى التى تشغل الإنسانية بأسرها، وهو هنا يمكنه أن يستخدم أى حكاية، وليس كما يعوّدنا النقد المدرسى الذى يطلب أن نكتب فقط عمّا نعرفه، فالواقع أننا إذا ما كتبنا فقط عمّا نعرفه، سيذهب التخييل بكل أشكاله إلى الجحيم، بدايةً من الخيال العلمي، وصولًا إلى ألف ليلة وليلة.

إلى أى مدى شكَّلت الفلسفة وعيك الأدبي؟
سؤال الفلسفة هو نفسه سؤال الأدب. الفلسفة هى أقصى شكل لتجريد الأسئلة الكبرى بالعالم، أمّا الأدب، فهو يشخِّص، ويجسِّد، فالمقولة الفلسفية تظل مجرَّدة، والأدب يأتى ليمنحها اللحم والدم، ويجعلها تُنطق على لسان شخص.
هل ترى أن جيل الشباب الحالى استطاع نحت بصمته التاريخيّة كجيل 19 مثلا أم ما زال فى حاجة إلى الوقت؟
أنا الآن فى سن الأربعين، وقد نشرت أول قصة لى فى 1991، وبالتالى أعتقد أنه يجوز لى الحديث بما أنّى أملك تجربة قد تكون جيدة من ناحية الامتداد الزمني.
وما أراه بصدد ما تتحدَّث عنه، أن أجمل ما فى جيلى، هو أنه حطَّم فكرة الجيل من أساسها، فنحن كنا نملك مسميات جاهزة، جيل الستينيات، والسبعينيات، وهكذا، ومع دخول الألفيّة، لم يعد يعرف النقّاد كيف يسمّون هذا الجيل، وفضلًا عن ذلك، فاليوم هناك تنوع كبير فى الكتابة، وفى السابق كان يمكن لنا أن نضع بعض الأجيال تحت مظلّة جمالية واحدة، لكن الجيل الذى يكتب فى مصر اليوم يصعِّب من تلك المهمة، فهناك من يكتبون الأدب الواقعي، وهناك من يكتبون الأدب الفانتازي، وهناك كتابة أميل إلى الواقعية السحرية، وهناك أُخرى تعيد تقاليد الكتابة الرمزية، وهناك اتجاه آخر يميل إلى الكتابة الساخرة، وهى صرعة أدبيّة ظهرت مع بروز جيلنا، وهناك أيضًا الكتابة المتمنّعة على أشكال التصنيف، وباختصار فقد حدث تفتيت لفكرة وحدة التيار، فلم يعد هناك تيار بعينه سائد على التيارات الأُخرى، والواقع أن هذا جاء نتيجة لمناخ بعينه، وظروف بعينها، من ضمنها التململ من فكرة أن الجيل هو ابن مقولة محدّدة، فجيل الستينيات مثلًا كان جيل الحقبة الناصريّة، جيل ارتبط بأحداث بعينها، بدايةً من حلم القوميّة العربيّة، وصولًا إلى النكسة، ولا أنكر أننا شهدنا أيضًا أحداثًا كبرى، كالثورة، غير أن طموح ثورة يناير كان يتمثّل فى إتاحة فكرة التنوّع، وليس توحيدنا تحت مظلّة واحدة. الثورة كانت بلا قائد، وكذلك كانت الكتابة التى نتجت عنها بلا أب أو قائد، وبلا لافتة.

قلت إن الرواية أشبه ببناء كاتدرائي، وإن الروائى حرفى عليه أن يدرِّب يده باستمرار.. ألا ترى أن الكتابة بوصفها فنا تظل خاضعة للمزاج والحالة النفسية للكاتب؟
الرواية تخضع لعاملين متواشجين، عامل الحرفة، وعامل الإلهام. ففكرة الرواية الأساسية، وموضوعها، يظلان خاضعين للإلهام، وللومضة التى قد تستولى على الكاتب وتسيطر عليه فى أية لحظة، أمّا فيما يخص التنفيذ والتطبيق، فالمسألة تختلف، لأن الرواية ليست دفقة، وليست نصًا قصيرًا، وإنما هى بناء كامل، فيه شخصيات، ومصائر، وصراع، وعالم كامل، على الكاتب أن يمتلك قدرًا كافيًا من الحرفية لإدارته وإدارة شخصياته، ومن هنا فالرواية تحتاج إلى قدر كبير من الالتزام، لأنها تُكتب فى مزاج معيّن يسمح بخلق إيقاع النص، ولا يمكن للكاتب أن يعزف لفترة عنها، لأنه بلا شك سيفقد الإيقاع، والروائى يستجلب الإلهام ويستحضره أثناء الكتابة، ولا يمكن للروائى أن ينتظر الإلهام، ولو قرّر أن ينتظره، فلن يكتب.