الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الديمقراطية بين الممارسات والشعارات (4)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا ما انتقلنا إلى ثالث أوهام الديمقراطية التى ننشدها، أعنى جوهرها الذى يحوى بين طياته العدالة والحرية، فسوف ندرك أن جل فلاسفة السياسة والأخلاق أكدوا أن ذلك الجوهر من اليوتوبيات التى يحلم بها الشعب دوما فى كل المجتمعات، وذلك لأن كل نظام يتوهم أنه يحقق العدالة تبعًا لوجهة نظره وخدمة مصالحه. ومن ثم ليست هناك حرية مطلقة ولا مفهوم للعدالة متفق على صحته، الأمر الذى يستوجب تفعيل ذلك الجوهر فى حياتنا بداية من الأسرة وتربية الصغار دون أدنى تقليد لعوائد غريبة عن مشخصاتنا أو السير فى ذيل المجتمعات المغايرة فالديمقراطية شأن الحداثة لا تتحقق بالخطب أو الشعارات بل هى وليدة الفعل والممارسة. 
والسؤال المطروح: هل نحن نمارس الديمقراطية فى حياتنا الأسرية؟ إننا نعتبر الأب هو الحاكم لا لشيء إلا لأنه ينفق ويعول ويدبر شئون الخاضعين إلى ولايته، وإذا ما شاركته الأم فى نفس هذه المهام وحملت عنه أكثر الأعباء مشقة ألا وهى رعاية الصغار وتنشئتهم، نجد المجتمع لا يعترف بهذه القيادة التى تجمع بين الأب والأم، ويعود ذلك الوهم إلى موروثاتنا الاجتماعية التى تسربت إلى الدين والمعتقدات فجعلت منهما دستورًا جاحدًا وظالمًا لدور المرأة ومكانتها، ويتمثل ذلك الوهم فى النظر إليها دائما بأنها تابع ناقص الأهلية التى تمكنها من حرية التصرف والتعبير عن رأيها وتفعيل إرادتها، وعليه لا يحق لها المطالبة بالعدالة والمساواة فى المجتمع والأسرة، فينشأ الصغار على أن القيادة والريادة والحكم من نصيب الأقوى، وذلك لأن باقى المعايير (الإنفاق، الرعاية والحماية، تدبير شئون المنزل) تشارك فيها الأم، بيد أن الأب انتزع القيادة منها دون وجه حق أو مبرر معقول، وغالبًا ما تستسلم الأم لذلك. 
فهل فى إمكاننا اقتلاع ذلك الوهم من عقولنا لتربية أبنائنا على أسس تؤمن بالحرية تمكنهم من الانتصار إلى الأصوب والأحكم وليس للأقوى، وتزيل الفوارق فى المعاملة بين الذكور والإناث (ولاية الأب والأم) فينعم الجميع بالحرية والمساواة والعدالة باعتبارها من القيم التليدة التى نشأوا عليها، ومن ثم لا مجال للتنازل عنها، وبذلك نكون قد دربنا أبناءنا على أولى درجات ممارسة الديمقراطية. ثم نقتلع من حياتنا تلك الأمثال الموروثة التى تقعدنا دومًا عن حكمة الاختيار والقدرة على انتخاب الأصلح والأقرب إلى التنفيذ، ومن أشهر هذه الأمثال (من غير عادته قلت سعادته)، (اللى عايز تحيره خيره)، فإن مثلها يورثنا التقليد والرجعية ويدرج التفكير الناقد ضمن الرذائل والمكدرات. أضف إلى ذلك وجوب تعويد الآباء على لغة الحوار والمناقشة والمساجلة ليعلموا أبناءهم أن الأمور الحياتية لا تعالج بالأوامر والنواهي، بل بالتفاهم والتآلف والنقاش الهادئ الذى يوصل دوما إلى النجاح والفلاح. أما القيود التى يفرضها الأبوان على الأبناء فيجب أن تُعرض أيضا على أبنائهم فى صورة نصائح مبررة ودروب توصل إلى السعادة، فتستحيل الأوامر الإلزامية إلى عوائد، وبطول الممارسة تصبح التزامًا عقديًا ينبع من داخل كل فرد فينا. فيكبر النشء على احترام القوانين والنظم العامة والانصياع للآداب والأخلاق دون أن يشعر بالقهر أو الاستبداد أو العنف فلا يمارس تلك الرذائل فى حياته فيصبح مواطنًا خلوقًا وجديرا بالمجتمع الذى تحكمه الديمقراطية، تلك التى تعلم أول دروسها فى البيت بداية من حقه فى اختيار الملبس ومجال الدراسة والزوج، والالتزام فى الوقت نفسه بالواجبات والأخلاق التى تفرضها روح التعاون عليه فى مجتمع الأسرة. 
وإذا ما عدنا إلى مربع الديمقراطية لنؤكد أن خلو زاوية الديمقراطية بين الزوجين أو بين الأبناء باسم الدين أو العادات والتقاليد والأعراف أو القوة البدنية الذكورية، سوف ينشئ البنات على الخنوع والانكسار وينمى فيهن روح الاغتراب أو الكفر بذلك المجتمع الظالم والنفور من تلك العوائد الفاسدة. وإذا ما نشأ أبناؤنا على أن الهيمنة والسيطرة يجب أن تكون فى يد من لديه القدرة على الإنفاق فسوف ينشأ كل منهم لا غاية له سوى جمع الثروة بغض النظر عن مصدرها، والأصوب تعليمهم أن المال وسيلة لتحقيق جانب من السعادة لا لفرد واحد بل للأسرة مجتمعة. وبذلك نكون قد حققنا ثانى دروس الديمقراطية فى حياتنا السياسية واقتلعنا الوهم الأكبر الذى ينمى فينا روح الاستبداد والعنف حتى لا ننشأ عليه.