الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الهروب امتطاء للسراب "3/3"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لأنّ مشكلة الهجرة السرية ليست قضية فردٍ واحد فقط أو قطاع بعينه دون غيره من القطاعات الأخرى أو تعنى شريحة معينة من المجتمع ولا دخْل للشرائح الأخرى بها، فقد كانت محلَّ اهتمام عوالم الفكر والثقافة والأدب والفنون أيضا. وعى عالمُ الفكر والثقافة والأدب والفنّ الظاهرةَ وأدركها وقدّمها بتصورات مختلفة إحاطةً ونقدا وتشريحا ومحاولة فهمٍ وتفسير فى ضوء المرجعيات المتباينة والأنساق الثقافية المتعارِضة بين بلدان المنطلَق والوصول، وتأثيرات المركزيات والصّدوع الثقافية والاحتكاكات عبر التاريخ، العنيفة منها خصوصا.
فى هذا السياق وفى مجال الأدب، الروائى منه على الخصوص، تتنزّل روايتان جزائريتان حديثتان، الأولى هى نصُّ «كاماراد، رفيق الحيف والضياع. فضاءات. الأردن ٢٠١٦»، للصدّيق حاج أحمد الزيوانى أصيل عمق الجنوب الجزائرى حيث يقيم ويعمل «أستاذا جامعيا، أدرار». الذى يرصدُ فى هذه الرواية - وهى روايته الثانية - بحكم الجوار ورحلاته فى تلك البلدان، الهجرةَ غير القانونية لأفارقةِ جنوب الصحراء الذين يعيشون فى فضاءات ملؤها التخلُّفُ والاستبدادُ والبطالة والفوارقُ الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية الكبيرة والبؤس والفقرُ والجفافُ والمجاعة والحروبُ، وتسجِّل فصولَ رحلة معاناتهم فى سبيل الوصول إلى الفردوس الأوروبى (لمن ينجح فى ذلك) مرورا بدول الجوار الشمالى الجزائر والمغرب الأقصى.
بهذه الرواية يؤكِّد الزيوانى - مرّة أخرى- انفتاحَ المثقَّف الجزائرى على قضايا وهواجس الجوار القريب والبعيد- ماديا ومعنويا- بانتمائه متعدِّد الأبعاد وامتداداته الحضارية والجغرافية.
أمّا الرواية الثانية فهى «هجرة حارس الحظيرة، دار الأمّة، الجزائر ٢٠١٧ لنجم الدين سيدى عثمان» فهى النصُّ الأول لكاتبها القادم إلى عالم الأدب من الإعلام الرياضي. توثِّقُ الرواية يوميات شاب جامعى (العياشي) فى مدينة قسنطينة، يحملُ إجازة فى التاريخ، يجد نفسَه –على غرار مئات الخريجين مثله- بلا عمل فيمتهنُ حراسةَ السيارات المركونة فى الشارع مقابل دراهم معدودة. ولكى يضع حدّا لحياة الفقر والحرمان والهامش وأمام إلحاح أصدقائه وإغراءاتهم يُقرِّر تجريبَ حظِّه خارج الوطن شمالا فيُعدُّ العدّة لذلك وتتحدَّد ساعة ركوب القارب ومكانَه لكنّه يعدل عن ذلك دقائق قبل الركوب استجابة لدموع والدته وتوسلاتها. أمّا محاولته الثانية فقد نجحتْ. لكنَّ اتجاهها كان مفاجئا ومخالِفا للمعهود ذلك أنّ «حَرقته» هذه المرة كانت إلى الجنوب، إلى أقصى جنوب القارّة. إلى بلد مانديلا مُحمّلا بأكوام من الهموم والأحزان واليأس والقنوط والخوف وقليل جدا من الرّجاء والأمل فى القبض على الحلم الذى رحل يطارده هناك، عسى أن تتغيّر الأقدار العاطلة، إضافة إلى عقدة شعور بالذنب، إذْ كان يعتقد أنّه قتل أمّه لأنّ ضغطها ارتفع فجأة مُلقيا بها فى غيبوبة استدعتْ نقلها إلى غرفة العناية المركّزة بالمستشفى عندما علمت بسفره إلى المدينة التى تُقلِع منها قوارب المهاجرين السريّين، فلم تستيقظ منها بل كانت آخر حلقة لها فى الحياة قبل رحيلها إلى الدار الأخرى. يحاول العمل فى جنوب أفريقيا، لكنه يقع بعد فترة ضحية مكيدة يقبع بسببها أربع سنين فى السجن يفقد أثناءها أباه (ولم تكن العلاقة بينهما طيبة)، ليعود إلى الجزائر أخيرا وقد أضاع كلَّ شيء، بعضَ عائلته والشقة التى عاش فيها فى قسنطينة وبعض صحّته وبعضَ شبابه. وعوضا عن أن تكون رحلته فرصة لتحسين أوضاعه كانت نتائجها عكسية مثل اتجاهها تماما، ذلك أن زمامّها لم يكن بيده ولم يتحكّم فيها بترصُّدٍ وإصرار سابقين، بقدر ما كان بيد الآخرين من جهة وبيد المصادفات الغريبة والحظِّ السيئ من جهة أخرى.
استعرضت الروايتان الظروف السيئة للهجرة السرية ومآسيها ومآلاتها وآثارها على راهن ومستقبل من يقوم بها فقدانه لإنسانيته. تضمّنتا كثيرا من المشاعر والأحاسيس والآلام والآمال والأوهام والانتظار والخوف والرجاء والخيبات المعنوية منها والمادية والانتقاد والاتهام، فكانتا محاكمة قاسية للمكان والزمانَ وانغلاقهما فى وجه «الحرّاق»، ومحاكمة أقسى للواقع والمجتمع ومتنفِّذيه والمسئولين عنه فى كلّ المستويات والمجالات. نصّان جديران بالقراءة، غير أنّنى شخصيا آسف للأخطاء اللغوية الكثيرة الواردة فى النّص الثانى (والأول إلى حدٍّ ما)، كانت مراجعة بسيطة وتدقيق لغوى من الكاتب أو الناشر كفيلةً بتفاديها.
أخيرا، «الحرقة» أو الهجرة السرية غير القانونية مأساة إنسانية بكل ما فى الكلمة من معنى يتحمَل مسئوليتَها كلُّ أفراد المجتمع البالغين بمن فيهم «الحرّاق» نفسه، بقدر يقلُّ أو يكثر.، كلُّ بحسب موقعه ومجال نشاطه.