الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

سهيل سعود يكتب: الديمقراطية وتحديد السياسات الكنسية

سهيل سعود
سهيل سعود
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ان فكرة الديموقراطية ولدت في أثينا اليونانية، وقد شدّدت على ضرورة، أن يكون هناك حكومة مسؤولة أمام الذين تحكمهم، وأن يكون هناك مساءلة للذين في السلطة من قبل الجسم القضائي. إلاّ أنّ القيمة الأساسية المفترض وجودها لتحقيق الديموقراطية، هي قيمة الحرية بكل أشكالها. وقد توفّرت هذه القيمة في أثينا اليونانية 2000 سنة قبل الإصلاح الانجيلي. 
وأن حريّة الإنسان، والدراسات المرتبطة بالإنسان، كانت من أعمدة الفكر اليوناني القديم. وهي كانت الدوافع الأساسية، وراء إنجازات اليونانيين القدماء العظيمة، في حقول الفلسفة والسياسة والعلوم وغيرها. فاليونانيون هم الذين ابتكروا مفهوم أن السياسة هي شأن المواطنين. وهكذا سادت مبادىء الديموقراطية، بواسطة حكام عملوا لخير مواطنيهم، وحلّ السلام والأمان نسبيا في أثينا القديمة. 
إلاّ أن تلك المبادىء لم تتمكن من الصمود طويلًا، اذ لم تدم أكثر من 200 سنة. فالرومانيون الذين خلفوا اليونانيين، ومع أنهم بدوا في الوهلة الأولى أنهم تبنوا المبادىء الديموقراطية الأثينية، إلاّ أن شساعة المساحة الجغرافية الكبيرة جدًا، التي غطت حكم الإمبراطورية الرومانية، وعدم احترام حقوق الحكام، والأرستقراطيين لحقوق الأفراد، وهجمات البرابرة المتعددة، وعجز الحكّام الرومان عن حماية شعبهم، وانتشار الإقطاعية، أدت الى اختفاء المبادىء الديموقراطية لمدة حوالي 2000 سنة، الى أن عادت بوادرها للظهور في القرن الخامس عشر، أي قبل قليل من بدء حركة الاصلاح الإنجيلي في القرن السادس عشر.
ففي القرون الوسطى كانت طبيعة معظم المجتمعات طبيعة إقطاعية طبقية. كان ولاء الناس لمن له الثروة والأملاك. لم يكن للطبقة العاملة امتياز وإمكانية التحكم في ظروفها. أما نظام الكنيسة السائد آنذاك، فقد كان نظامًا سلطويًا استبداديا، منع الناس من التعبير عن رأيهم. عبر الكاتب أنطوني أرلبستر، عن الحالة السياسية والدينية والاجتماعية التي كانت سائدة آنذاك بقوله "هناك ملكا واحدا، ايمانا واحدا، وقانونا واحدا". 
وقد ساد العرف، بأن معمودية الإنسان كانت بمثابة جنسيته وانتماءه الى بلده. وبالتالي، عندما كان يفصل إنسان ما عن شركة الكنيسة، فهذا قد عنى تجريده من كل حقوقه الدينية والمدنية أيضًا. وسط تلك الظروف، برز التيار الأنسنوي، الذي شدّد على أهمية قيمة الإنسان، وبرزت الحاجة القصوى للإنكباب على الدراسة والبحث في حقول الفلسفة والأدب والعلوم، الأمر الذي كان نتيجته بدء تحرير فكر الإنسان من قبضة تسلّط الدين والكنيسة عليه.
تلك البيئة الفكرية والسياسية والحضارية التي سبقت الاصلاح، قد عبدّت الطريق لانطلاقة تلك الحركة الاصلاحية الانجيلية التي غيرّت مجرى التاريخ الأوروبي في كثير من الأمور، ومنها، اعادة اطلاق مبادىء الديموقراطية للعالم.
طرح المصلحون الإنجيليون، في القرن السادس عشر، عددًا من المبادىء والقيم اللاهوتية والكتابية والروحية المستمدة من الكتاب المقدس، دون أن يقصدوا بأن يكون لها تبعات: إنسانية واجتماعية وسياسية، ساهمت بشكل مباشر في إعادة المبادىء الديموقراطيىة الى الوجود بعد غيابها لمدة 2000 سنة. عندما رفض المصلح مارتن لوثر، التراجع أمام ضغوطات السلطات الكنيسة والمدنية، التي طلبت منه إحراق كتبه والتراجع عن إصلاحه، فإن موقفه الشهير الذي صرّح فيه، بقوله "لن أتراجع.
ضميري أسير كلمة الله"، فتح نقاشا كبيرا حول أسئلة جدية حاسمة، كان فيها قوة تغيير، منها: أين السلطة النهائية؟ من هو مصدر هذه السلطة النهائية؟ هذا الموقف الجريء، الذي كان علامة فارقة في تاريخ الإصلاح الإنجيلي، أثّر في مجرى تاريخ الكثير من البلدان. 
فمارتن لوثر، رفض الخضوع للسلطات الكنسية والمدنية المطلقة، التي استخدمت لقمع فكر الناس، ليؤسس سلطة جديدة داخل الانسان، هي سلطة حرية الضمير والمعتقد والتعبير. 
فرفض لوثر لحق الكنيسة الحصري في تفسير الكتاب المقدّس، أعطى أهمية كبيرة لقوى الانسان العقلية والفكرية. واطلاقه لمبدأ أن "كلمة الله تفسّر نفسها بنفسها، وأن النصوص الصعبة من الكتاب المقدس يمكن تفسيرها بنصوص أخرى أوضح"، منحت الانسان المؤمن الثقة بنفسه، التي يحتاجها، لايمانه بأن الله منحه القدرة على فهم وتفسير كلمة الله ورسالته الخلاصية التي تغيّر الحياة، وتكوين مفهومه الشخصي، دون حاجة الى وساطة الكاهن والكنيسة، وانما بالاعتماد بالدرجة الأولى على ارشاد الروح القدس الذي يسكن فيه.
إن إصرار لوثر على رفع صوته في وجه السلطات المدنية والدينية، للمطالبه بحقه الالهي باحترام صوت ضميره ووجهة نظره، فتح الباب لكل إنسان أن يكون له صوته. فلم يعد أحد قادرا أن يمنع أحدا آخر، عن أن يكون له صوته وايمانه ومعتقده. وقد كلّف موقفه هذا ثمنا باهظًا جدًا، إذ كلّف حوالي 100 سنة من الحروب الدينية. أيضًا من المفاهيم الاصلاحية الانجيلية التي ساهمت في بروز مبادىء الديموقراطية، مفهوم "كهنوت جميع المؤمنين" الذي أطلقه المصلحون.
فهذا المفهوم، شدّد في جانبه الروحي على مساواة جميع الناس أمام الله، اذ اعتقد المصلحون أن جميع الذي يؤمنون بالمسيح، يصبحون كهنة وكاهنات أمام الله، بمعنى أنهم يستطيعون التواصل مع الله وإقامة علاقة روحية مباشرة معه، دون الحاجة الى وساطة الكهنة والأساقفة ورجال الدين. فجميع الناس متساوون أمام الله. ليس لانسان سلطة روحية أعلى وأسمى من سلطة إنسان آخر. فسلطة المؤمن البسيط وسلطة بابا الكنيسة هما معا متساويان أمام الله.
هذا المبدأ الروحي، كان له أيضا تبعات إنسانية وإجتماعية وسياسية. فقد أرسى مبدأ مهما من مبادىء الديموقراطية، هو مبدأ المساواة في المجتمع بين جميع الناس: الحاكم والمحكوم،الغني والفقير، المرأة والرجل، العبد والحر، كما يقول الرسول بولس، "ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع" (غلاطية 3: 28).
وهذا يعني، أن جميع الناس دون استثناء، لهم الحق، ليس فقط في التواصل مع الله، بل في التواصل مع بعضهم البعض، ومع المسؤولين في السلطات المدنية والكنيسة، مهما علا شأنهم واختلفت مراكزهم ومناصبهم. وحقهم يكمن في المشاركة معهم في القرار والتأثير وتحديد السياسات الكنسية والمدنية في مجتمعاتهم. 
لم تكن في نيّة مارتن لوثر خلق حضارة على الأرض، لكنه قصد أن يعلن برّ الله في ابنه يسوع المسيح. لم يقصد لوثر أن يصرف حياته كي يؤسّس مملكة على الأرض، لكن مبادىء روحية انسانية اجتماعية خالدة، خرجت كنيجة غير مقصودة لأمانته للإنجيل. فهو وضع ملكوت الله أولًا، وليس مملكة الإنسان أو مملكة الكنيسة.
هذه المبادئ اللاهوتية والكتابية والانسانية، التى نتجت عن حركة الاصلاح الانجيلي في القرن السادس عشر،: سلطة حرية الضمير والمعتقد والتعبير، والايمان بقدرات الانسان العقلية والفكرية في الفهم والتفسير، ومساواة جميع الناس في المجتمع، انما هي من المبادئ الأساسية التي أرست الديموقراطية.
وقد انتقلت هذه المبادىء بسرعة كبيرة الى كثير من دول العالم، فنقلت السلطة من يد الكنيسة الى يد الشعب، ليبدأ الشعب ممارسة حقه الديمقراطي في المجتمع، ويعيشوا معنى ديموقراطيتهم الذي هو، "حكم الشعب من خلال الشعب". والنبلاء في أوروبا تبنوا العقائد البروتستانتية وتمردوا ضد الحكم الاقطاعي، والحكام المتسلطين. 
يرصد المؤرخون تطوّر الفكر الديموقراطي، في القرن السادس عشر والسابع عشر، نتيجة لحركة الاصلاح. من الأمثلة التاريخية على فاعلية الفكر الديوقراطي، الذي عاشه وناد به الانجيليين، الغاء ممارسة العبودية، التي كانت مقبولة لقرون عديدة، بحجة أنه واقع موجود في المجتمع. فبعض إنجيليي القرن السابع عشر والثامن عشر، أعادوا دراسة هذه الممارسة، في ضوء المساواة والعدالة الإلهية في الكتاب المقدس.
وتوصّلوا الى قناعات جديدة، بأن تلك الممارسة التي كانت مقبولة، ما هي إلاّ شرّ مُطلَق، فعملوا على محاربة هذا الشرّ. قال الكاتب ألِك ريري، مؤلّف كتاب البروتستانت: الإيمان الذي صنع العالم الحديث، "ان الإصلاح الإنجيلي، كان من أهم الأحداث الحاسمة التي صنعت العالم الذي نعيش فيه".