رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات "البوابة".. الزائر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جلس يُتابعنى من بعيد.. يتجول بعينيه داخلى وكأنه ينتظر حدوث شيء معين. أحاول التهرب من نظراته وأنا أدخن سيجارتى ببطء. رأيته ينهض مع آخر أنفاس سيجارتي، اقترب منى مجُددًا؛ وفى تلك اللحظة لم أقو على منع دموعى من الفرار بينما الخوف يحتل عروقي.

١
تسلل إلى قلبى هذا الصباح حنين لأشياء مضت، ووجوه محاها أثر الخصام، والبعد، وتلك المسافات اللعينة.
أحاول أن أتخلص منه، ولكن، يبدو أنه أقسم على البقاء..
رأيته يجلس أمامى مباشرة، مبتسمًا ابتسامة انتصار.. حاول أن يخلق معى حديثًا. تذمرت فى بادئ الأمر، ولكننى استسلمت أخيرًا.. لا توجد لديَّ الطاقة الكافية لأسرد تفاصيل ذلك الجدال، أو -على الأدق- الصراع، الذى أزال القناع عني، وترك المرأة المهشمة..
جلس بعيدًا يُشعل سيجارته وهو يتابعنى بنظرات خفية.. أتحرك داخل غرفتى -تلك القلعة الرمادية المهجورة- التى ملأتها الفوضى والكآبة، منذ أن غادرها الربيع منذ بضع سنوات دون رجعة.. كانت خطواتى ثقيلة دون هدف..
ألقى نظرة على ملامح وجهى فى المرآة؛ ملامحى عابثة.. متغيرة.. تائهة.. تُسيطر عليها آثار الخذلان والسنين.. اختفت ملامح القوة تمامًا.. تبدو أنها تمردت. ظهر شبح ابتسامة ضعف -أو استسلام- لذلك الحنين المتوغل.
عيناى تبدوان كالزجاج، تحضنهما تلك الهالات السوداء الواضحة، تظهر خطوط الشيب بوضوح تلك المرة. أقترب أكثر لألمح دمعة تقرر الفرار.. أهرب من مواجهتها.. أحدق فى خيط رفيع جدًا من الضوء يتسلل من نافذتي، التى أحاول جاهدة إغلاقها بإحكام هربًا من أشعة الشمس، فأنا أكرهها، ولى أسبابي؛ أهمها أنها تُظهر كل شيء على حقيقته، وتفضح ما يستره الليل.
أتجول فى شرود.. تقع عيناى على فنجان قهوة أعددته منذ ساعة تقريبًا، قبل تلك الزيارة الملعونة.
ألتقط الفنجان وأرتشف منه وأتركه فى موضعه. أرتمى بجسدى على أقرب مقعد.. ألهث، وتخرج أنفاسى ثقيلة، تعافر من أجل البقاء..
٢
أعافر من أجل البقاء..
أتناول قهوتى بيدان ترتعشان، فأنا الآن عارية تمامًا. مجُرّدة من جميع الأسلحة. الثقة.. الهدوء.. الصلابة، وحتى اللامبالاة. فقد استولى عليها ذلك الزائر أثناء الصراع، وضعها جانبًا وهو يبرم معى اتفاقًا أن يتركها لى قبل أن يغادر.. اتفقنا على هدنة ألتقط فيها أنفاسى وأحتسى قهوتى وأدخن سيجارة ربما أقوى على استكمال المواجهة.
جلس يُتابعنى من بعيد.. يتجول بعينيه داخلى وكأنه ينتظر حدوث شيء معين. أحاول التهرب من نظراته وأنا أدخن سيجارتى ببطء. رأيته ينهض مع آخر أنفاس سيجارتي، اقترب منى مجُددًا؛ وفى تلك اللحظة لم أقو على منع دموعى من الفرار بينما الخوف يحتل عروقي.
أخذ من يديَّ اللتين ما زالتا ترتعشان فنجان القهوة بهدوء ووضعه مكانه واقترب وأنا أتهرب منه. أشيح بوجهى بعيدًا بينما أحاول السيطرة على تلك الرعشة التى سرت فى جميع أنحاء جسدى ولم أقو أيضًا، فيما تنهمر الدموع وكأنها أمطار ديسمبر. يتابع التجول فى غرفتى بخطوات ثابتة وكأنه يُثبت لى أنه الأقوى والآن يبدأ فى خوض صراع آخر لم أقو أيضًا على سرد تفاصيله؛ ولكنه أنهاه بجملة وهو يضع أسلحتى أمامى بهدوء وثبات وبعض العطف.
ربت على رأسى قائلًا بنبرة واثقة: «كنت أجهز لتلك الزيارة منذ سنوات عديدة ولكنى انتظرت.. أمهلتك وقتًا كى تستعيدى الحياة التى رحلت وغادرتك واستبدلتها بتلك الأقنعة المزيفة المسكونة بلعنة اللامبالاة والقسوة؛ وعندما رأيتك تهمين بتشييع إنسانيتك أيضًا جئت إليكِ كى أعيد صوابك.. رأيتك تودعين أصدقاء وتُغلقين أبواب قلبك بإحكام. تتوالى عليكِ الأزمات وأنتِ لا تُبالين.. تضحكين فى أحلك اللحظات. وأخيرًا تعدت نسبة الأنانية بداخلك الحد المسموح.. أتيت كى أواجهِك بأنكِ ممن قرروا الموت منذ زمن، وحان موعد ذهابي.
أراكِ قريبًا فى حياة أخرى» قالها وذهب.

قصة لـ «نهى جلال»