الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الهروب امتطاء للسراب "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت دولُ الضفة الشمالية –فى العقدين الأخيرين من القرن الماضي- تقوم من حين لآخر بعمليات تسويةِ وضعيةٍ للمهاجرين السريين (انتقائية بالطّبع، وعلى أكثر من صعيد) يستفيد منها المئات بل الآلاف أحيانا، لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية (يبرِّرونها ظاهريا بالدواعى الإنسانية)، وذلك لسدِّ ثغرات فى مواقع ومِهنٍ بعينها يأنف منها مواطنوهم، ولغايات أخرى لا يُفصَحُ عنها. إلاّ أنّها كفَّت عن ذلك أو حصرتْها فى أضيق الحدود وفى خانة «حالة بحالة» إن كانت لذلك ضرورة. وبالمقابل كُثِّفـتْ الإجراءات والبرامج السياسية والاقتصادية الكثيرة وحتى العسكرية الدفاعية الأمنية الفردية والجماعية التى سُطِّرتْ من الجانبين (من الشمال خصوصا) وعُزِّزتْ الترسانة القانونية الردعية وزاد تضييق الخناق على المهاجرين المُحتمَلين قبل العبور وبعده (إن نجحوا فى ذلك)، حتى أنّ بعضَ دول الجنوب استعانت فى هذا المجال بالدين والشّرع فجنّدتْ الشيوخَ والأئمّة والدُّعاة لتحريم الظّاهرة واستصدرتْ فتاوى لتجريمها وتجريم (تأثيم) مؤتيها.
وأقوى دلالات الحرقة هى قهر الخوف والفردانية والانطواء على الذات، و«حرْقُ» أيَّ عائق أو حاجز معيارى أو قيمى ماديٍّ أو معنوي، نفسيا كان أم وطنيا سياسيا أو اجتماعيا أو دينيا أو حضاريا أو – وهذا هو الأهم- قانونيا. والصورة هنا تعنى عدم إقامة أيّ اعتبار لهذه العوائق وإسقاط معانيها عنها «فى سبيل هِجرة هذا الواقع والهروب من هذا الـ«هنا» إلى ذلك الـ«هناك» المختلِف افتراضيا، ودون اعتبارٍ أيضا للمخاطر والعواقب السيئة المُحتمَلَة برغم الأخبار المثبِّطة كغرق قوارب العبور ولفْظِ البحر لجثث الغرقى والاختناق فى زوايا السفن ومداخنها لمن استطاع التسلُّل إليها وعمليات الترحيل المعاكِس والسِّجن قبل الترحيل فضلا عن التوارى والاختباء وحياة الشقاء وما إلى ذلك لأنّ القادمَ لن يكون فى نظر «الحرّاق» -حتى فى أبشع صوره- أسوأ وأتعس من الحاضر.
الحرقة فى جوهرها تجاوز وتحدٍ متعدِّدان: تجاوز وتحدٍ للذات وتجاوز وتحدٍ للمجتمع وللآخر مطلَقا، وتجاوز وتحدٍ للمخاطر أخيرا. هى «عدم اعتراف» من «الحرّاق» بالمجتمع ردّا على «عدم اعتراف» من هذا المجتمع وتخلِّيه أو ما يبدو كذلك، فالمجتمع لا يعترف بـ«الحرّاق المحتمَل» لانتفاء مبادئ الاعتراف الثلاثة التى حدّدها الفيلسوف الألمانى آكسل هوناتAxel Honneth والتى هى فى نظره أساس الانتظار الشرعي/المشروع للفرد: مبدأ الحب: يفتقد «الحرّاق المحتمَل» حُبَّ الآخرين فلا يثِقُ بذاته. مبدأ المساواة، لا يُحسُّ بأنّه يمتلك الحقوقَ نفسَها التى هى للآخرين ومنه لا يُطوِّر الإحساس باحترام الذات. مبدأ التضامن فى دائرة الجماعة، يُحِسُّ بأنّه غير مفيد لمجتمعه أو لجماعته لأنّه لا يبذُل له إسهامه فيه ومن ثمّة لا يُحسُّ بتقدير الذات، بل يحسُّ بأنّهُ لاّ قيمة له فى هذا المجتمع وبأنّه كمٌّ مُهمَلٌ منبوذٌ من الآخرين وقد يكون هذا الإحساس متبادَلا فى بعض الحالات. لذلك تحدوه الرغبة فى مباشرة مسار بناء هذا الاعتراف «هناك»، للعودة إلى «هنا» بصورة مختلفة ووضْعٍ آخر، سبيلُ ذلك نضال فردى «إكراهي» ذى تصور وطبيعة فرديين، «تهدفان إلى فرضِ رؤية خاصّة للعالَم على المجتمع بهدف تحسين وضعيته فيه». والمفارقة فى الحرقة أنها منتهى القنوط وتمام اليأس من جهة مع بصيص أمل من جهة أخرى. إقدام على الانتحار بتعريض الذات لمخاطر أكيدة ورغبة فى النجاة. سباحة ضدّ التيار جملة وتفصيلا. ولأنّ هناك تراتبية حقيقية تنتظم «البلدان الحلم» فإنّ المفارقة المُدهشةَ هى أنَّ الجزائر مثلا أصبحتْ –فى نظر الخبراء والملاحظين- مستقرّا مُفضّلا للمهاجرين السريين الأفارقة بعدما كانت فى السابق مُجرّد معبر نحو الشمال، فى وقْتٍ يهجرُها فيه أبناؤها بالآلاف (الشباب خصوصا) أو يحاولون ذلك. استعنتُ شخصيا –منذ شهرين- بشابين أفريقيين فى عملية ترحيل أغراض من مكان إلى آخر. ثم احتجت إلى خدماتهما بعد فترة فوجدتُ أحدهما ولم أجد الآخر ولمّا استعلمتُ منه عن سبب غياب صديقه أخبرنى بأنّه رجع إلى البلد (مالي) قبل يومين لأنّه جمع أثناء مقامه هنا مبلغا سيكون بالنسبة له رأس مال سيستعين به على الانطلاق هناك، وبأنّه سيعود هو أيضا إلى بلده (السنغال) بعد أشهر قليلة وسيستغلُّ هناك ما جمعه هنا. يعنى يأتى شباب بلدان جنوب الصحراء إلى هنا (وهم يُعدّون بالآلاف) و«يديرون التاويل» بتعبير شبابنا بينما يرى هؤلاء ذلك مستحيلا هنا.. هل هو اختلاف فى العقليات والرؤى؟ هل هو اختلاف فى كيفيات الحساب والتقدير؟ هل هو تبايُنٌ فى الطموحات؟ أمر محيِّر فعلا.