رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الأب جورج قنواتي.. رسالة 50 عامًا نشرت العلم والسلام

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الأب جورج شحاته قنواتى أحد رواد الحياة الفكرية فى الوطن العربي، وأحد القامات الفكرية المصرية، كان مؤمنًا بأن الحوار أيسر السبل لتحقيق السلام المنشود بين الأمم والأوطان... رفض كل أنواع التعصب والتوقع داخل الذات، وورد على التيارات الهدامة والمتعصبة من اليهودية والمسيحية والإسلام.. مفكر يتخذ من التواصل مع الآخر سبيلا لبناء جسور من العلاقات الكونية التى تأخذ بيد البشرية إلى السلم العالمي.
العالمٌ والراهبٌ دومينيكاني، ولد بالإسكندرية فى السادس من يونيو ١٩٠٥م، وتوفى فى الثامن والعشرين من يناير ١٩٩٤م، يمثل إحدى القامات الفكرية المصرية، كان معنيًا فى بداية حياته العلمية بدراسة الصيدلة والكيمياء لمدة تربو على الخمس سنوات؛ قبل أن يتجه إلى دراسة الفلسفة واللاهوت، ويحصل على درجة الدكتوراه فى الفلسفة واللاهوت. 
وانضم قنواتى إلى جماعة الدومينيكان فى كل من فرنسا وبلجيكا ومصر، حتى صار مديرًا لمعهد الدراسات الاستشراقية التابع لدير الدومينيكان بالقاهرة. أقام حواره الحضارى بين الإسلام والمسيحية على أساس من الاتفاق: الله واحد - الله حى قيوم - الله خالق السماوات والأرض - الله محب البشر- الله ذو الغفران والرحمة - الله هو الحميد المجيد - الأنبياء يرسلهم الله- الله يحيى الأموات ويرضى الأنفس- الإنسان والعبادة- الإنسان والعبادة، وقدّم مدرسة فى الحوار بين الأديان انضم إليها العشرات من المؤمنين بضرورة التواصل بين الآخر عقديًا، ومن هذا المنطلق، دافع قنواتى عن الإسلام وبقية الأديان دفاعا مجيدا، وقضى أكثر من ٥٠ عاما ينشر العلم والفكر والثقافة.
وتعد أهم مظاهر الحوار التى أبداها قنواتى فى حواره بين الأديان، كتابه القيم «فلسفة التفكير الديني»، الذى عقد فيه مقارنته بين علم الكلام الإسلامى وعلم اللاهوت المسيحي؛ بيد أنه يمكننا تفسير ذلك العمل بأن الأب قنواتى كان يريد أن يقيم حوارًا بين علم الكلام الإسلامى وعلم اللاهوت المسيحي، بحيث يبيّن ما بينهما من تلاق، فربما اعتمد الرجل على ما يؤيد هذا التلاقي، فاستند إلى ما استند إليه من المفكرين المسلمين عارضًا عن بعضهم؛ إما لأنهم ليسوا على درجة هذا التلاقي، وإما لأن جهودهم تتشابه مع جهود آخرين تم اللجوء إليهم جاء الإنتاج الفكرى للأب جورج ردا عنيفا على التيارات الهدامة والمتعصبة من اليهودية والمسيحية والإسلام، كما جاء رفضا لكل أنواع التعصب والتقوقع داخل الذات. فهو مفكر يتخذ من التواصل مع الآخر سبيلا لبناء جسور من العلاقات الكونية التى تأخذ بيد البشرية إلى السلم العالمي. لقد نفض الأب قنواتى عنه كل مظاهر السلبية، رافضا كل أسباب التعلل والحجاج، انطلق وهو صافى النفس تاركا وراءه شوائب التاريخ وإحباطاته وانشقاقاته، انطلق وهو يغض الطرف عن كل العقول التى سودتها الأقلام الهدامة، فانطلق يزرع بذور الأمل من جديد فى نفوس أبناء الحضارة الإسلامية، ويمهد الأرض الخصبة بالتصالحية والتسامحية بين أبناء هذه الأمة.

تعد جهود الأب قنواتى العلمية امتدادًا طبيعيًا لجهود العديد من المسيحيين الذين أسهموا فى بناء الحضارة العربية الإسلامية، فحركة الترجمة التى ازدهرت فى العصر العباسى قامت على أكتاف مجموعة من المترجمين كان أغلبهم من النصارى‏؛ ومن بينهم حنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، وقسطا بن لوقا، وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي. وقد شجّع الخلفاء حركة الترجمة والمترجمين تشجيعا ماديا ومعنويا‏، خاصة بعد إنشاء «بيت الحكمة».
وحفلت كتب التاريخ بالحديث عن المسيحيين الذين شاركوا فى بناء هذه الحضارة، وكان لهم دور مؤثر فى كل المجالات، ومن بين هؤلاء الذين ساهموا بنصيب وافر فى نقل الكتب من اليونانية إلى العربية. ومن أهم الشخصيات التى ساهمت فى إحياء التراث العربى فى القرن التاسع عشر، يحتل الأب لويس شيخو، منصبا مرموقا، فقد اكتشف عددا كبيرا من المخطوطات القديمة وحققها، كما ألف فى أوجه عدة من التاريخ والآداب كتبا قيمة.
أما فى مجال الشعر وإسهام المسيحيين فى إثرائه فنذكر من هؤلاء الشعراء: أمية بن أبى الصلت (ت ٦٣٠م) من رؤساء ثقيف وفصحائهم، وهو شاعر مشهور من شعراء الطبقة الثانية وقيل الطبقة الأولى، نظر فى الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدًا، وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر ونبذ الأوثان، وكان محققا والتمس الدين، وهو القائل:
كل دين يوم القيامة عند الله إلا دين الحنيفية زور
وكانت وفاته فى السنة الثانية من الهجرة، وقد ورد فى شعره وصف للتوحيد والكمالات الإلهية، وأشاد بدين يسميه الحنيفية وذكر قصة تضحية إبراهيم لابنه.
ومن أقوى الشخصيات التى أنجبها القرن التاسع، بل من أشد رجال التاريخ ذكاءً وأحسنهم خلقا (حنين بن إسحاق ٨٠٩-٨٧٣م). كان طبيبا، وكان فيلسوفا، ولغويا متبحرا فى اللغة العربية، وكان جيولوجيا، وعالما بالأديان، وله فى كل فن من هذه الفنون مؤلفات كثيرة. ولما مرض المنصور فى أواخر أيامه (سنة ١٤٨هـ)، ولم يفلح الأطباء بشفائه، فقالوا: «ليس فى وقتنا هذا أحد جورجيس رئيس أطباء جنديسابور»، وهو جورجيس بن بختيشوع السرياني. وكان رئيس بيمارستان جنديسابور أشهر مدارس الطب فى تلك الأيام. فجاء إلى بغداد جورجيس مع اثنين من تلامذته، هما إبراهيم وعيسى بن شهلا فعالج جورجيس الخليفة وشفاه. فمنعه الخليفة من الرجوع إلى بلده. والحقيقة ليس المقام مقام سرد لكل العلماء المسيحيين الذين ساهموا بجهودهم فى خدمة الحضارة الإسلامية؛ فإن الحديث عنهم يحتاج إلى رسالة كامل، وقد خصص لذلك الأب جورج كتابا سماه (المسيحية والحضارة العربية) تحدث فيه الأب جورج عن العلماء من المسيحيين، وهو آخر ما كتبه الأب جورج، ولعله أراد بذلك أن يثبت للدنيا كلها بالدليل العملي، أن المسيحيين جزء لا يتجزأ ولبنة من هذا البناء الضخم للحضارة الإسلامية.

ابن الحضارة الإسلامية
قال الدكتور عاطف عراقي، إن الأب جورج يعتبره التاريخ وأصحاب الفلسفات واحد من أبناء الحضارة الإسلامية، وأنه استطاع رغم مسيحيته أن يواصل ما بدأه أسلافه من مساهمة فى خدمة هذه الحضارة. فمن منا يكتب عن ابن سينا ولا يرجع مجبرًا إلى تحقيقات الأب قنواتى عن ابن سينا فى «الشفاء»، ومن منا يتناول ابن رشد ولا يستنير بمؤلفاته عنه وتحقيقاته وجهوده فى إلقاء الضوء عليه، ومن منا لا يستند فى لغة الحوار مع الآخر إلى مؤلفات الأب قنواتى عن إسهام المسيحيين فى الحضارة العربية أو فلسفة الفكر الديني، أو ندواته ولقاءاته وحواراته عن حوار الأديان... فإذا أدركنا ذلك علمنا إلى أيّ مدى كان الأب قنواتى ذا تأثير واسع فى الحياة الفكرية عامة والفلسفية منها خاصة. لقد تجاوز الأب قنواتى إذن حدود العقيدة، وارتضى أن يرسم لنفسه أرضية رحبة لا حدود لها ولا أفق يحدها.

التصدى للتطرف
أضف «العراقي» لقد أسهم الأب قنواتى بآرائه فى قضايا مؤثرة وإشكالات جمة؛ فتدخل برأيه فى موضوعات كعلاقة الفلسفة بالعلم، والغزو الفكري، والتوفيق بين الفلسفة والدين، والفكر المعاصر وعلاقته بالدين، والمبادئ التى يشترك فيها الإسلام والمسيحية. وهذا يفسر لنا دوره فى التصدى للتطرف الدينى والتطرف العلمانى بكل أشكالهما، ومواجهة الصراعات المسلحة‏ بالفكر والعقل واللين. وبناء عليه، يمكن القول إن «الأب قنواتي، من خلال أقواله وأعماله الرائدة‏،‏ كان خير سفير فكريّ لمصر فى زياراته لأكثر بلدان العالم شرقا وغربا‏... وكان لا يكل ولا يمل من إعلان أن التسامح الدينى يعد جوهر حقوق الإنسان... لقد دأب على ذلك ليس فى أحاديثه ومحاضراته فحسب‏، بل من خلال كتبه ومقالاته وما أكثرها.
ويؤكد عاطف العراقى على هذه المميزات ذاهبًا إلى أن الرجل لم يكن من أصحاب الدعوات الطنانة الرنانة الجوفاء، كما أنه لم يكن من أصحاب الرايات الفاقعة والأصوات الزاعقة التى تدعو إلى حوار غير ذى جدوى؛ لكن دعوته كانت تستند إلى الدوام إلى قناعة راسخة بأن فى الحضارة والفكر الإسلامى ما يجب التوقف أمامه كثيرا وطويلا للاستفادة من معينه الذى لا ينضب.

علم التوحيد
وأكدت الدكتورة عايدة ناصف، أستاذة الفلسفة، أن الأب قنواتى قدّم لنا ما هو مشترك بين العقائد المختلفة، وأوضح الفوارق الأساسية التى تميز كل فرقة داخل العقيدة الواحدة، وبرهن على أن علماء الدين الإسلامى والمسيحى قدموا أدلة مختلفة، ولكنها متشابهة فى إثبات وجود الله، وعرف أن هناك تشابها كبيرا بين التوحيد فى الإسلام والتوحيد فى المسيحية. وأضافت: «كان الأب قنواتى أول من كشف لنا علم التوحيد، كما كشف لنا النصوص الدينية المتشابهة بين الديانتين مثل الله يحيى الموتى، المؤمنون إخوة.