الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الهروب امتطاء للسراب "1"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحرقة، مصطلح شائع بكثرة فى مجتمعنا الجزائرى المعاصر. وتعنى الهجرةَ السرية أو عبور الحدود بين الدول خُفية دون وثائق وفى غفلة عن أعين شُرطتها وحَرَسِها هنا وهناك، أى العبور من نقاط تختلف عن نقاط العبور التقليدية الرسمية التى تستدعى حيازة ما يعرَف بجواز السّفر وتأشيرة الدخول أو أيّ وثيقة تقوم مقامَه وخلوّ السجلّ الذاتى ممّا من شأنه أن يمنع الانتقال من بلد إلى آخر. وغنى عن القول أنّ المنطلَق هو بلدان العالَم الثالث، بلدان دول الجنوب بالمفهوم الاقتصادى السياسي. وبديهى أن الوِجهةَ المرجُوةَ لمهاجِرينا السريين هى بلدان الشمال (أوروبا تحديدا، جنوبها بصورة أكثر تحديدا قبل الانتقال إلى بلد آخر لمن استطاع ذلك). الظاهرة لا تخصُّ الجزائر فقط بل هى عامّة تنتشر بدرجات متفاوتة فى معظم بلدان العالَم الثالث (أو بلدان الجنوب) وتبلغ أوجَها فى قارتنا الأفريقية. أصبحت فى أيامنا هذه ونتيجة لتفاقمها وتجاوزها كلَّ الحدود مشكِلة تقضُّ مضاجع المعنيين بها أى دول الشمال والجنوب معا، الأولى منها أساسا، نتيجة للاختلالات التى تُحدثُها وما ينتُج عنها من آثار ومشاكل فى مختلف جوانب الحياة الاقتصادى والاجتماعى والثقافى الحضارى منها خاصّة.
والحقيقة أنّ الحرقةَ عندنا ليست طفرة ظهرت هكذا فجأة وبلا مقدِّمات. كما أنها لم تبدأ فى العشرية الحالية أو التى قبلها فقط، بل تعود إلى نهاية السبعينيات نتيجة لأسباب موضوعية وأخرى ذاتية. بدأت تكثر بشكل لافت ابتداء من منتصف الثمانينيات مع أولى بوادر فشل النموذج الاشتراكي، الذى تزامن مع ظهور أولى الصعوبات الاقتصادية إثر تراجع أسعار البترول وبداية إفلاس المؤسّسات الاقتصادية (والسياسية فيما بعد) وضغط المديونية الخارجية وعجز الدولة عن توفير الوظيفة والمسكن خاصة للمتخرِّجين وذوى الشهادات فما بالك بمن هم دونهم مستوى، وبداية ما سُمِّيَ بالتصحيحات الهيكلية وإعادة الهيكلة وآثارها الاجتماعية القاسية، وبداية ظهور الفوارق الاجتماعية الصارخة (غير المُبرَّرة فى نظر البعض) ثم ظهور العنف المسلّح الذى تطور إلى حرب أهلية زادها أوارا تفاقم الأزمة الاقتصادية وتدخُل صندوق النقد الدولي. ثم جاءتْ العشرية الأولى من الألفية الجارية، مُشكِّلة مرحلة انتقالية عاد فيها الأمن والاستقرار السياسى ونعمنا فيها ببحبوحة مالية بفعل معاودة صعود أسعار البترول، إلاّ أنّها لم توقِفِ الظاهرة بل تفاقمت فى السنوات الأخيرة بفعل عوامل كثيرة أهمها إضافة إلى عودة الصعوبات الاقتصادية وتراجع إيرادات المحروقات مرة أخرى، تدهور المستوى الاجتماعى بفعل الفساد وسوء التسيير والاختلاس والإفلاس والاستبداد متعدِّدى الأوجه والأشكال (وحتى المستويات، يقول البعض). تزايدت بشكل مخيف ومُقلِق حاليا متجاوزة نوعية «الحرّاقين» التقليديين إلى نوعيات أخرى من مختلف شرائح المجتمع: نساء وفتيات وشيوخ وأطفال ومُقعدون ومرضى، وموظّفون وخريجو جامعات فيما يشبه الهروب الجماعى إلى شمال المتوسِّط، الفردوس الموعود.
أمّا فى الشمال فقد تمّ فرضُ تأشيرة الدخول إلى فرنسا (وإلى بلدان أوروبية أخرى تاليا) على الجزائريين منتصف الثمانينيات (سبتمبر ١٩٨٦)، أسوة بمواطنى المغرب العربى ومعظمَ جنسيات العالَم وذلك بعد أولى العمليات المُسمّاة إرهابية، التى نشرت الرعبَ حينها فى باريس (التفجيرات التى تبنّتها منظّمات عِدّة، واتُهِم فيها اللبنانى جورج إبراهيم عبدالله ومنظّمته FARL رغم كونه مسجونا منذ سنتين قبل ذلك التاريخ ١٩٨٤، وما زال كذلك إلى يومنا هذا، ومنظّمات أخرى منها الـCSPPA والـ BIAI وغيرها، قبل ظهور ما سُمِّى بالعنف الإسلاموى. كانت هذه العمليات فرصة ذهبية لفرنسا اتخذتها غطاءَ لفرض التأشيرة والتحكّم فى التدفُّق العشوائى لمواطنى مستعمراتها القديمة (خصوصا) إلى أراضيها فى ضوء سهولة السّفر والتنقل آنذاك. وفى السياق نفسه كانت آثارُ مصاعبها الاقتصادية قد بدأتْ تبرُزُ عندها هى أيضا متمثِّلة فى إفلاس بعض مؤسَّساتها الاقتصادية (أو إشرافها على ذلك) وتخفيض قيمة الفرنك (حدث ذلك ثلاث مرات أثناء رئاسة فرانسوا ميتيران: أكتوبر ١٩٨١، جوان ١٩٨٢، مارس ١٩٨٣) وتسريح العمال وبداية ظهور البطالة وتراجع المستوى المعيشى لشرائح من مواطنيها والمقيمين فيها وذلك فى سياق التراجع الاقتصادى الذى أصاب بلدان العالَم المتقدِّم سنوات قليلة قبل ذلك أى فى نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات. يُضافُ إلى ذلك طُفُو التناقضات الحضارية على السّطح واستفاقة الثارات التاريخية وما أفرزته وتفرزُه من عنصرية حضارية ثقافية ترفضُ وجودَ الآخر المختلف ومجاورته لها على أرضها، تطورتْ إلى عنصرية سياسية قانونية مهيكلة فى أحزاب ما يسمّى باليمين المتطرِّف، فى ظلِّ تزايد عنف الجماعات الإسلامية المتطرِّفة ودمويتها فى الجانب المقابل.