الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

من الحب إلى الحب السائل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«هيدجر: أن تحبّ يعنى أن تخوض تجربة الحياة الأكثر خصوصيَّة، وتكتشف مع شريكك أنَّ كيانك ليس فقط يريد وجود الآخر، بل ويريد بإصرار».
فى كتابه فن الحب- ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد- يصحح إريك فروم عالم النفس الشهير ذلك الخطأ الذائع الشائع الذى يحصر الحب- بمعناه الواسع- فى علاقة شخص بشخص آخر قائلا: ليس الحب أساسا علاقة بشخص معين، إن الحب موقف، اتجاه للشخصية يحدد علاقتها بالعالم ككل، لا نحو «موضوع» واحد للحب».. فالحب إذن حالة أو نشاط أو موقف نفسى تجاه كل البشر بل العالم.
ثم يضرب فروم مثالا يؤكد تصوره فيقول: إذا أحب الشخص شخصا آخر غير مكترث بالآخرين، فإن حبه ليس حبًا، بل أنانية متسعة». 
وإذا كان العالم يحتفل اليوم بالفلانتين فماذا- تحديدا- عن حب الرجل للمرأة أو العكس؟
فى السطور التالية نستعرض أبرز الرؤى التى حاولت رسم أو ميزت بين الحب وغيره من العلاقات بين الرجل والمرأة.
يعرف الآن باديو- الفيلسوف المعاصر- الحب بقوله: بناء.. حياة تصنع من منظور اثنين.. إنه خبرة الاندماج المخلص بين اثنين. 
لكن هذه الحياة- برأى باديو- لا يمكن ترتيبها وصناعتها لأنها لن توجد فى غياب المخاطرة والمفاجأة.. انتقال من الصدفة إلى القدر.
ثم يكثف فكرته: الحب مكان فى العالم لا يمكن التنبؤ به أو حسابه فى ضوء قوانين العالم.
لكن إذا كانت اللحظة الأولى مفاجأة فإنها سرعان ما تصبح تقليدية بعد أول لقاء، لذلك يدعونا للأخذ بنصيحة الشاعر رامبو: يجب دائما أن نبتكر الحب من جديد بالعمل على ترسيخ «الصدفة». 
لم يغفل باديو الجانب الواقعى للحب، فميَّزه عن «الصداقة» بممارسة الجنس... فـ«التورط الجسدي» دليل على الاستسلام للحب- برأيه
لكن لماذا يحتاج الإنسان للحب؟ 
يجيب فروم بأن ذلك راجع لحاجة الإنسان لقهر انفصاليته وترك سجن العزلة. 
وإذا كان الحب مبنيا على الاحتياج فنحن- من وجهة نظر فروم- أمام ٣ صور للحب: الأولى: الحب الطفولى القائم على مبدأ «أحب لأننى محبوب»..أما الحب الناضج فقائم على مبدأ «أحبك لأننى أحتاج إليك».. أما الحب الأكثر نضجا فيقول «أحتاج إليك لأننى أحبك». 
إلا أنه يفرق بين أمرين، الأول التجربة البذيئة «للوقوع» فى الحب..والثاني: «الوقوف» فى الحب الذى يحدث فجأة لاثنين غريبين إذا سمحا للحائط بينهما أن يسقط، فيشعران بالقرب ويشعران بأنهما شخص واحد رغم أنهما يظلان اثنين. 
لكن «سقوط الحائط»- فقط- لا يعنى الحب، بل لابد من وجود الاهتمام الفعال بحياة ذلك الذى نحبه، وحيث ينقص هذا الاهتمام الفعال لا يكون هناك حب».
هذا الاهتمام الفعال لن يتحقق إلا بالنفاذ إلى الشخص الآخر لاكتشف نفسى واكتشف كلينا. 
إلا أن فروم يشدد على الطبيعة الزئبقية المراوغة للحب فيقول: فى فعل الاندماج أعرفك.. أعرف نفسي.. أعرف كل إنسان... وأنا لا أعرف شيئا،
وينبه على غلط التصور الذى يرى الحب هدوءا تاما وغيبة للصراع بين «المحبين»، فالحب حرية وليس خضوعا للآخر أو تخل عن الذات،إلا أن صراعات الحب غير مدمرة، لأنها تفضى إلى جلاء المسألة، تُنتِج تطهيرًا منه ينبثِق الشخصان ولديهِما مزيد من المعرفة ومزيد من القوة.
ويذكرنا بمقولة: يحيا الحب على حافة الهزيمة ويموت بالانتصار.. فيربط الحب بحضور الشخصين معا دونما تنازلات عن ذاتيتهما- مركزى وجودهما- قائلا: لا يكون الحب ممكنًا إلا إذا تواصَلَ شخصان معًا من مركز وجودهما، ومن ثم إذا عاش كل منهما بنفسه من مركز وجوده. فى هذه «الإعاشَة المركزية» تكمن الحقيقة الإنسانية، هنا فقط تكمن الحياة، هنا فقط يوجد أساس الحب.. والحب معاشًا على هذا النحو، هو تحدٍّ دائم. إنه ليس مستقرًا للراحَة، بل هو تحرُّك ونمو وعمل مشترك. حتى إذا كان هناك تناغم أو كان هناك صراع، إذا كان هناك فرح أو كان هناك حزن.. إن شخصين يعيشان نفسيهما من ماهية وجودهما، كل منهما واحِد بالنسبة للآخَر، عن طريق أن يصبحا واحدًا مع نفسيهما بدلًا من الهرب من نفسيهما».
لكن الصورة السابقة التى توافقت البشرية عليها منذ قديم الأزل أصبحت لا تتماشى مع عالمنا اليوم، لذلك اقترح زيجمونت باومان عالم الاجتماع البولندى مصطلح «الحب السائل» الذى بات يحاصرنا اليوم. 
فالحب عند باومان هو: المتعة المُراوِغة (والطاغية أيضًا) لِـ (أنتَ وأنا) عندما يصبحان واحدًا.. السعادة العظمى التى تغمر بها حياة شريكك وتصنع علامة فارقة فى حياته حتى لو كان صنيعك لا يعنى الشيء الكثير لك.. الحب أيضا أن يشعر شريكك دومًا بأنك موضع حاجته الدائمة وأنه ما مِن بديل لك فى حياته.. وهذه كلها أمور تبعث البهجة المنعشة فى نفس المُحِبّين.
أما الحب السائل فهو علاقة قائمة على اللذة فقط ومحكوم بقانون التزلج على الجليد: سلامتك فى سرعتك فلا مجال لتعميق العلاقة ويجب الحذر من السقوط فى فخ الإخلاص والدخول فى مصيدة الوفاء.. ومن ثم فالحب السائل مثل شراء الأسهم، وليس مطلوبا منك أن تكون وفيا للأسهم، لكن كن عقلانيا رشيدا، احسب جيدا تكاليف الربح والخسارة فى علاقتك بمن تحب كما تحسبها عند شراء الأسهم.