رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

هل من مستقبل للنقد النفسي؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هل من مستقبل للنقد (الأدبي) النفسي؟ سؤال طرحته عليّ إحدى الطالبات فى عزّ الدّرس. بدا لى السؤال غريبا للوهلة الأولى، لكننى سرعان ما انتبهتُ إلى وجاهته، فأجبتها فى الحال: مستقبله من مستقبل النقد الأدبى عموما سياقيا كان أم نَسَقيا، بل مستقبل الأدب بصورة أعمّ، ومن ثمّ فالأحرى أن نعيد صياغة السؤال على النحو التالي: هل من مستقبل للأدب؟ لنعترِفْ بداية بأنَّ الأدب صورة من صُورِ تجلِّى الفكر. وهو- إنتاجا واستهلاكا - ممارسةٌ نخبوية تستلزم حدّا أدنى من الثقافة ونمطا معيّنا من أنماط الفهم والإدراك. موضوعه هو الذات وتمظهراتها وتمثيلاتها المختلفة وعلاقاتها بغيرها من الذوات والموجودات الأخرى المكونة للمحيط الذى تتحرّك ضمنه. كان على مرِّ العصور يتكيَف - بحسب أنواعه وأجناسه - مع الراهن ومستجدّاته. فيسدُ - عبر وسائطه - حاجات ويلبّى رغبات. لكن التكيف فى عصرنا هذا (بالأشكال والصيغ التقليدية) يبدو صعبا شيئا ما – وذاك حديث آخر- ذلك أنّ حدودَه فى مجتمعاتنا بصورة خاصّة تضيق (وهى الضيِّقة أصلا بفعل النخبوية المشار إليها) ومساحات تأثيره تتقلّص فى ظلِّ ممارسات حياتية جديدة تحتلُّ الميديا الحديثة وطرق الاتصال الجديدة فيها المكانة الأساس، لذلك فإنّ مستقبله يتوقَّف على مدى الحاجة إليه. وباعتبار النقد ملازما للأدب ملازمة وجودية ومُتساميا عليه فى الوقت نفسه، فإنّه لا نقدَ بلا أدب. نشيرُ هنا إلى أنّ نقدنا الحديث – مثل العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى- باتجاهاته وتياراته إضافة إلى تساميه ونخبويته غربى الأصول المعرفية والمنهجية فلا يختلف اثنان فى أنّنا عيال على الغرب فى هذا المجال وذلك منذ بدايات عصر النهضة وحدوث القطيعة -التى أشرنا إليها فى مواضع أخرى- مع الممارسات النقدية العربية البلاغية الأسلوبية الانطباعية القديمة.
فلا تكاد تظهر نظرية أو يتبلور منهج هناك حتى يجد له صدى عندنا ويغدو موضة تشغل الساحة فترة فيتبارى القوم فى التبشير به وترجمة نصوصه ومصطلحاته وما إلى ذلك. ومنه ما يعتقده البعض أزمة نقد فى العالم العربي. لكن الأزمة فى رأيى المتواضع ليست أزمة كمّ بدليل مئات بل آلاف الدراسات التى تنجز فى كليات الآداب فى جامعات البلاد العربية، وتتناول موضوعات مختلفة ونماذج من الإنتاج الأدبى شعرا ونثرا، بقدر ما هى أزمة «انغلاق أو جمود» من جهة وأزمة ثقة بين النقاد والكتاب والشعراء من جهة ثانية وأزمة تواصل بين الفاعلين فى حقل الأدب عموما (كتابا ونقادا) والجمهور الواسع من جهة ثالثة. وتبعا لذلك نرى أنّ النقد الأدبى حارس معبدِ «أدبية» متسامية ما انفكّت تتحصّن سياقيا ونسقيا منذ القديم، منذ أفلاطون وأرسطو، بمقولات ومعايير وقيم تحمى الذوقَ والجمال ولا تتطور إلاّ ببطء لا يسمح بالانفتاح إلاّ بمقدار. 
تزداد عزلة النقد الأدبى اليوم ويقلُّ الإقبال عليه ويقلّ اعتبارُه بل أصبح يفقد من سلطته تدريجيا. إذ لم يعُدْ يُعبَأُ كثيرا بهده السلطة كى يُقامَ لها كبيرَ اعتبار أو يُلقى لها بالا فى أوساط المثقفين وأنصاف المثقفين فعدد مدّعى الأدب مثلا -شعراء وروائيين وقاصّين- يكاد يفوق عدد الأدباء الحقيقيين، فما بالك بالعامّة. لذا تضيق مجالات تأثيره لتنحصر فى الجامعات ومراكز البحث أو الدوريات المتخصِّصة جدا التى لا يكاد يقرؤها أحد. ولولا أنّ بعض وسائل الإعلام ما زالت تخصّْص له هامشا (حتى وإن كان صغيرا) فى فضاءاتها وترصد له بعض المؤسّسات جوائز تكافئ بعض العاملين فيه فإنّه لا أحد من دون شك سيأبه به. لعلّ السبب الأساس فى ذلك يعود إلى أنّ المُعطى الجمالى الذى تقوم عليه سلطة العملية النقدية لم يعُد سهلَ الهضْم لدى المتلقّين بل هم يرونه اشتراطات وإكراهات وقيودا. من هنا يكون النقد الأدبى مدعوا إلى تجديد نفسه والتكيف مع العصر ومتطلّباته والأدب وتحولاته والانفتاح قليلا ومراعاة تطور تيارات الممارسات والأذواق. قد يكون الاتجاه إلى توسيع مجال الرؤية وتغيير زاوية النظر هو الملائم اليوم وهو ما يبدو أنّ النقد الثقافى يسعى إليه فى اتجاهه إلى دراسة الأنساق الثقافية العامّة وتطورها ضمن ثقافة أو حضارة ما. وفى الإطار نفسه يكون علم النفس الاجتماعى وعلم الاجتماع الثقافى مدعوين لدراسة الظاهرة.
وختاما نستعيد ما أشرنا إليه فى البداية: مستقبل النقد الأدبى فى -اعتقادي- مرتبط بمستقبل الأدب عموما من جهة وبمدى الحاجة إليه من جهة ثانية. ذلك أن الحاجة هى التى تتحكم فى الإقبال على الشيء.