فى كتابه «شعراء الحبس والحرية»، يرصد الشاعر أحمد سويلم مجموعة من أهم الشعراء القدامى والمحدثين، الذين كان الأسر أو السجن أو النفى قاسمـًا مشتركـًا بينهم.. مهما تنوعت الأسباب التى أدت بهم إلى ذلك. إن الشاعر إذا كان أسيرًا، أبدع تجربته فى الأسر فى قصائد تصف تلك المعاناة القاسية التى قيدت حريته وأهانت نفسه، كما حدث مع المعتمد بن عباد فى الأندلس، وأبى فراس الحمدانى لدى الروم، ومن قبلهما عبد يغوث الحارثى فى العصر الجاهلي.
وعبر كتابه، الذى يقع فى ٢٥٦ صفحة من القطع المتوسط، نبحر فى عالم هؤلاء الشعراء القدامى والمحدثين، مع رسم صورة حقيقية لتلك المعاناة. اهتم المؤلف بتقديم نبذة سريعة عن كل شاعر ومحنته (أسيرًا أو سجينـًا أو منفيـًا) مع الإشارة إلى أشعاره ورصد تمرده ومعاناته.
فى الكتاب الصادر عن دلتا، يبدو جليـًا أن الاختيارات لم تعتمد على عامل شهرة الشاعر فى الأساس، وإنما حرص المؤلف على التنقيب فى تاريخ الشعر- قديمـًا وحديثـًا- لتقديم بعض الشعراء الذين قد يجهلهم القراء لعدم شهرتهم.
من الشعراء المحدثين، نطالع قصص محمود سامى البارودى وأحمد شوقى وعبدالحميد الديب ونجيب سرور والبياتى ومحمد عفيفى مطر ومظفر النواب ومحمود درويش وعبدالله البردونى ومعين بسيسو ومحمد مهران السيد وجيلى عبدالرحمن وكمال عمار وفهد العسكر وعبدالرحمن الخميسي.
يحكى الكتاب عن طرفة بن العبد، الذى يسميه المؤلف «شهيد الكبرياء»، فقد قصد طرفة ملك الحيرة عمرو بن هند هو وخاله المتلمس.. وكان خاله شاعرًا أيضـًا، فقام الاثنان بمدح الملك عمرو وأخيه قابوس.
حاول عمرو بن هند أن يقربهما وأن يجعلهما من ندمائه، لكن جفوة حدثت بين الملك عمرو بن هند وطرفة، وقيل إن الأخير تغزل فى أخت الملك ونظم فيها شعرًا. وغضب الملك أكثر حين بلغه أن طرفة يهجوه فى قصائده، ولم يشأ أن يقتله بنفسه خشية إثارة ثارات جديدة مع قبيلة بكر، فدبر مؤامرة لطرفة وخاله المتلمس، إذ أعطى كلًا منهما كتابـًا وطلب منهما أن يذهبا إلى عامله فى البحرين، وزعم لهما أنه طلب منه فى الكتابين مكافأة الشاعرين.
سافر الشاعران إلى البحرين كما تقول المراجع التاريخية، وهى ليست البحرين التى نعرفها الآن، بل هى كما تشير تلك المراجع قُطرٌ يقع فى الشمال الغربى من عُمان ويمتد شمالًا حتى حدود العراق ويمتد غربـًا بأرض صحراوية إلى مرتفعات نجد واليمامة.
شك خاله فى فحوى الكتاب وعرضه على صبى يقرأ من صبيان الحيرة فعرف أنه أمر العامل بقتله لا مكافأته. حاول المتلمس إقناع طرفة بالهرب، لكن الأخير أصر على مواصلة رحلته، فى حين فر خاله إلى الشام.
وصل طرفة إلى عامل البحرين وأعطاه الكتاب، فسأله:
-أتعلم ما أُمرتُ فيك أتعرف؟
قال طرفة:
ـ نعم، أمرت أن تجيزنى وتحسن إلىَّ؟
فقال: إن بينى وبينك خؤولة أنا لها راعٍ فاهرب من ليلتك هذه.
غير أن طرفة أبى أن يفعل ذلك، فحبسه عامل البحرين فى سجن خاص وكتب إلى عمرو بن هند رافضـًا أن يقتل طرفة. أرسل الملك عاملًا آخر على البحرين، وأمره بقتل طرفة.
أقبل الرجل على طرفة وقال له:
إنى قاتلك لا مفر، فاختر لنفسك ميتة تهواها.
فقال طرفة:
ـ اسقنى خمرًا وفصدني.
ففعل، فما زال ينزف دمه حتى مات.
...
إن مطالعة كتاب عن هؤلاء الشعراء ومعاناتهم ممتعة إلى حد كبير، لما فيها من تفاصيل ثرية وأبيات شديدة الرهافة والعذوبة عن تجربة السجن والأسر والنفى فى بلاد الله.
