الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الفراولة الفنلندي.. والكوسة البلدي!!

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منذ عدة سنوات ذهبت إلى العاصمة الفنلندية هلسنكى للاشتراك فى مهرجان موسيقى، وأثناء وجودى فى المدينة كنت أجد الكثير من اللافتات والدعاية، التى تقترن بصور الفراولة، ولم أفهم بالطبع معنى اللافتات المكتوبة باللغة الفنلندية، فسألت أحد الأصدقاء الفنلنديين عن السبب، فقال إنهم فى هذا الوقت من كل عام يقيمون «مهرجان الفراولة»، لأن فنلندا تتميز بهذا النوع من الفاكهة أكثر من أى دولة فى العالم، وأن مذاقها لديهم أجمل من أى بلد آخر.. شعرت بسعادة بأننى حضرت فى ذلك الوقت الذى يقام فيه مهرجان الفراولة، حتى أستمتع بطعمها المتميز الذى يتحاكون عنه، خاصة أننى أعرف أن أجمل فاكهة موجودة فى مصر، فقد زرت العديد من البلدان الأوروبية وكنت أتعجب أن الفاكهة لديهم شكل جميل فقط، ولكنها بلا طعم فى أغلب الأحوال.. ولا يشعر أحد بطعامة الفاكهة والخضراوات لدينا إلا من سافر وشعر بالفرق، فمن ذاق عرف.. لذلك كنت أنتظر تذوقها، وأتساءل كيف يكون طعمها؟!.. وكانت المحال والسوبر ماركت تنتشر فيها الأشكال والأحجام المختلفة من علب الفراولة، وبالطبع كان سعر العلبة الصغيرة يساوى عدة كيلوجرامات من الفراولة عندنا، خاصة أن الأسعار فى مصر فى ذلك الوقت كانت منخفضة عن الكثير من دول العالم، قبل تعويم الجنيه الذى غرق بعد أن لم يستطع الصمود أمام أمواج أسواق المال العالمية!.. ولكن لا بأس فهى فرصة لا تعوض أن نشترى بضع حبات من أجمل فراولة فى العالم كما يُقال، حتى لو كانت بسعر قفص فراولة فى مصر!.. ولكن كانت المفاجأة بعد أن تذوقتها، أنها لا تختلف بتاتًا عن الفراولة لدينا!.. ولكننا بكل أسف لا ندرك قيمة ما نملك، فلا نحسن استغلاله.. فما أبهرنى فى فنلندا أنهم كما نقول فى أمثالنا الشعبية: «يصنعون من الفسيخ شربات».. فرغم عدم وجود قدرات سياحية لديهم سوى الطبيعة، فإنهم يستطيعون تسويق أنفسهم وبلادهم، واستغلال كل شىء جميل وإيجابي، ووضعه فى برواز أنيق يليق برقى دولتهم الآن.. حتى أصبحت فنلندا وفقًا لبعض التقارير تتزعم قائمة أفضل بلد فى العالم، من حيث الصحة والديناميكية الاقتصادية والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة.. أما نحن فرغم الإمكانات الهائلة التى حبانا الله بها، لا نستطيع توظيف قدراتنا والاستفادة منها، رغم أن لدينا ثروات لا تجتمع فى دولة واحدة فى العالم، ولكننا نفتقر إلى العقل الإبداعى الذى يحقق نهضة حقيقية.. فمصر غنية بكل ما لديها، ولكن لو أحسنت الحكومة والأجهزة المعنية إختيار القيادات المؤهلة، التى تمتلك العلم والفكر والرؤية الإبداعية، التى تمكنها من طرح حلول غير تقليدية للمشاكل غير التقليدية.. فنحن فى أمس الحاجة لتلك النوعية من القيادات، التى تتمتع بالضمائر الحية، وتدين بالولاء للوطن وليس لمن اختارها فقط!.. لا تعمل وفقًا لمبدأ «نفعنى وأنفعك»، ويكون هدفها الأوحد هو الإبقاء على الكرسى لأطول وقت ممكن، وتحقيق أكبر قدر من المصالح الشخصية دون أن تتحقق أى منفعة حقيقية للدولة!.. لذلك نجد الكثير من مشاكلنا تظل كما هى دون حلول، لأننا لا نصل فى الكثير من الأحوال للشخص المناسب فى المكان المناسب، وهنا يحضرنى كلمة أحد كبار الأطباء المصريين أ. د. ماهر عمران، حيث يقول: «معظم المراكز العليا والمناصب القيادية فى مختلف المجالات فقدت رونقها وبريقها بسبب ضحالة ورداءة من شغلوها».. لذلك لا نتعجب حين نجد فى فنلندا مهرجانًا للفراولة، يستغلون فيه أحد الأشياء البسيطة التى وجدوها لديهم، ويقيمون على هامشه مهرجانات فنية وثقافية مختلفة.. وفى نفس الوقت نجد نحن بلد الحضارة والتراث والفن والطبيعة وأغلب مهرجاناتنا تتحول إلى مهرجانات للكوسة، تفقد رونقها وبريقها، لعدم وجود معايير فى أى شىء، لا فى اختيار من يتولون إدارتها ولا لجان تحكيمها ولا المدعون فيها، تعتمد فى مجملها على العلاقات الشخصية والمصالح المتبادلة، تنفق فيها الملايين لإقامة المدعوين وأسرهم فى الفنادق الفاخرة، مهرجانات تتكلف الملايين دون أن تكون لها عائد فني أو ثقافى يحترم.. وبمناسبة «الكوسة» والتى ربما لا يعرف البعض لماذا اعتدنا فى مصر على وصف الواسطة والمحسوبية وافتقاد المعايير بالكوسة، فهذا يعود إلى عصر المماليك، حيث كان التجار والمزارعون يخرجون مبكرًا لأماكن بيع المحاصيل الزراعية بالأسواق، وكانوا يقفون فى طوابير طويلة حتى يتم تحصيل الرسوم والسماح لهم بدخول الأسواق والمتاجرة ببضاعتهم، ولكن كان هناك استثناء يمنح لتجار الكوسة، وذلك لأن الكوسة من الخضراوات سريعة التلف، ولا تحتمل درجات الحرارة العالية، ولذا كان يسمح لبائعى الكوسة فقط بالدخول من الأبواب، فكان التجار يحاولون الدخول سريعًا للسوق بادعاء أن ما معهم كوسة حتى يمروا بشكل أسرع من الآخرين.. ومن هنا صار استخدام المصريين للكوسة للتعبير عن المرور بسرعة وتجاوز الصف الذى يلتزم به الجميع، أو للتعبير عن أى شيء يمر دون مراقبة لشخص دون الآخر.. لذلك لا تتعجبوا إذا استمرت سيادة «الكوسة» فى بلدنا العزيز أن نجد دولًا، مثل فنلندا، تحول التراب إلى ذهب، ونجد مسئولينا يهيلون التراب على الذهب.