الجمعة 03 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

المطر يكتب سيرته: سيرة المكان "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كانت الفيلا فى الرواية هى الفضاء الذى جرت به معظم أحداثها كما أشرنا، اشتراها والد بليز من عالم نبات إنجليزى سنة ١٩٣٠ عندما قدِم إلى الجزائر ضمن الوفد الذى حلّ بها رفقة الرئيس «دومير» للاحتفال بمئوية احتلال فرنسا للجزائر. أطلقت عليها والدته اسم «المطر» لأنها «تشرش فى كل مكان مثل هذا المطر المُتهاطِل. ص ١١٧»، ولم تكتف بذلك بل شبّهتها بالأخطبوط لتشكيلتها الهندسية العجيبة. تطلُ غرفُها الأربع على البحر إضافة إلى باحة رحبة مُبلّطة بالفسيفساء، تتوزع على جنباتها بعضُ المقاعد الحجرية وغرف جانبية مخصّصة للضيوف الطارئين. تقع خلفها من الناحية العلوية مما يلى الطريق العام غابة من أشجار الصنوبر ويواجهها شاطئ ممتدّ بين بلدات هذا الساحل الغربى لمدينة الجزائر به كثيِّب رملى كثيرا ما تنتهى إليه نزهات فرحات وبقية رفاقه فى الفيلا فى فترتى السرد، كما تنتهى إليه أيضا أسراب الحلازين التى تكافح من أجل الوصول إليه والموت فوقه، ومع أنها تقع فى منطقة أمنية محصّنة استولت عليها الدولة وأسكنت فيها مسئوليها السياسيين الكبار ولا يدخلها أحد إلاّ بترخيص رسمى فإنّها لم تكن بمنأى عن الأطماع، كما كانت أيام الاحتلال عندما قام السماسرة حينها بكل ما فى جهدهم لشرائها بهدف تحويلها إلى ملهى ليلي، إلى حدّ تدبير ارتكاب جريمة قتل قربها كى يُتّهمَ بها فرحات ويُخرَج منها مالكوها لولا تمسُّكِهم بها وصدّهم لكل تلك المحاولات.
أمّا فى حاضر السّرد فقد واظب أحد السماسرة من ذوى المال الفاسد على الاختلاف إليها مستعملا كلّ وسائل الضغط والإغراء كى يدفع الشيخ فرحات إلى التنازل له عنها مستغلا معرفته لمحمود وبتواطؤ من بعض ذوى النفوذ فى الدولة (ص ٨٥)، ولم ينقطع عن ذلك حتى اليوم الذى صرفه فيه متوعِّدا إياه باستقباله ببندقية صيد إذا عاد إلى المكان. 
الرواية سرد للحياة فى الفيلا خصوصا فى الفترة المُسترجَعة وهى الفترة التى شهدت أجمل أيام البطل كما أشرنا. توقّفتْ حياتُه بعدها أو كادت فتوقّفت الحياةُ بها وغشيَها السكون خصوصا وأنّه وحيد لا أهل له فيما عادت الراحلة شقيقته وابنها محمود وولده نسيم، لذا لم يكن يوجد بها أحد معه معظم فترات السنة تقريبا. لا أنيس له فى أرجائها سوى كلبه «مرجان» وأصوات الطبيعة: صوت المطر، هديل الحمام فوق سطح الفيلا، أصوات الطيور البحرية والأمواج. وحتّى عندما استرجعتْ بعضَ الحركة فى حاضر السّرد (لجوء محمود وابنُه) كان القلق والخوف من المستقبل هما سيدا الموقف فى المستويين العامّ والخاصّ، ومع ذلك يبزغ الأملُ والتفاؤل معقودين على الجيل الصّاعد حينما يتوجّه فرحات إلى الشاب نسيم قائلا: «وأنت البداية والنهاية، وأنت الاستمرار، وأنت كلُّ شيء!»، أو عندما يخاطب نفسَه فى نهاية الرواية قائلا: «شيء من العذاب والكثير الكثير من السعادة والهناء! هكذا ينبغى أن تكون أحوالنا من الآن فصاعدا».
من هنا نعتبر الرواية سيرة للفيلا فهى الثابت الوحيد فيها، قبل أن تكون سيرة للشخصيات التى عمَرَتْها ذلك أنّ هذه الشخصيات - فيما عدا فرحات - مضتْ إلى حيث لا عودة.. من هنا أيضا نلتمس أُساسا لتأويل من يعتبرها رمزا للجزائر نفسها. بهذا القرار من فرحات ينتبه إلى أنّ الزمن لا يتوقف عند شخص ٍ بعينه أو حادثة ما، بل هو حلقات متواصلة وأجيال متتابعة، هنا تتوقّف الذكرياتُ عن تكبيل حركة صاحبها ضمن ماضٍ يتوقف بدوره عن أن يكون سجنا مُعكِّرا للوجود، يُفقِدُ نزيلَه مفهوم الزمن أو قيدا قامِعا للحاضر وسادّا لآفاق المستقبل. 
حضرت الموسيقى بقوة فى النصّ، فقد كانت فاليريان وخطيبُها أوريليان عازِفين ماهرين وطالِبَين فى المعهد العالى للموسيقى فى باريس قبل الحرب العالمية الثانية، لذا تواتر عزفُهما لمقاطع لكبار الموسيقيين على آلة الكلافسان-clavecin الموجودة بالفيلا كما تواترَ النقدُ الموسيقى بكثرة فى حوارات الشخصيات ووصف السارد خصوصا فى الفصلين المعنونين باسم كلٍّ منهما، كما كان فرحات يعزف بدوره من حين لآخر ألحانا محلية أو غربية ممّا علِق بذاكرته ممّا كانت تعزفه أوريليان، ويجهر بآرائه وأذواقه فى المجال. وحضر الفنّ التشكيلى أيضا عبر الشابّ نسيم الطالب فى المدرسة العليا للفنون الجميلة الذى لم تكن عدّة الرسم تفارقه.
لغة الرواية بسيطة وأنيقة تخلو من التقعُّر والسوقية والابتذال، ومع مباشرتها فإنها مليئة بالرموز والإشارات القابلة لشتّى القراءات. نصٌّ جدير بالقراءة.