الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

"القاهرة وما فيها".. حكايات مكاوي سعيد الأخيرة

 الراحل مكاوي سعيد
الراحل مكاوي سعيد
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ربما لو طالت أيام الراحل مكاوي سعيد لكنت قد شاهدته وهو يوّقع فخورًا حكاياته الأخيرة عن عالم وسط البلد المزخم بالأحداث والتفاصيل. ربما كان ليهمس في أذنك حكاية أخرى لم تُنشر ولكنه يُضيفها إلى ذهنك استكمالاً لتفاصيل كتابه الأخير الذي لم ير طبعته الأولى التي صدرت مع نهاية أول اسبوع في الدورة التاسعة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي شاء القدر أن يكون آخر أعماله التي لم يمُهله ليراها تخرج إلى النور كما حدث وحكاياته السابقة.
لكن «لو» حرف امتناع، مع الأسف..
الرجل الذي أبدع عدة مؤلفات صنعت لنفسها مكانًا بين عاشقي القراءة، وكان أشهرها "تغريدة البجعة" وآخرها "أن تحبك جيهان"، ترك بدوره رصيدًا من الحكايات لا يقل عن إبداعه، فظل فخورًا بمنطقته وسط البلد وهو يجمع مقتنايتها في كتاب، بينما جمع حكايته الأخيرة عنها في كتابه "القاهرة وما فيها- حكايات، أمكنة، أزمنة"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، والذي بدا حقًا أنه آخر تدوينات من لاحق "فئران السفينة" عن عالمه الخاص.
جاء الكتاب الذي يحمل آخر صور مكاوي في مقهاه المُفضّل زهرة البستان في 486 صفحة من القطع الكبير مزدحمًا بالحكايات القصيرة الممتعة التي زادت عن الخمسة وأربعين حكاية تنوعت ما بين بالغة القِصر والفضفاضة السرد، وكأن مكاوي كان يفرغ أكثر ما في جعبته قبل الرحيل، مُزينًا ما بين الحكايات بصور الشخصيات والأماكن التي تحدث عنها. لم يروِ حكاياته بترتيب زمني أو رحلة محددة في المكان، بل اتخذ المتعة طريقًا كافيًا، فالرحلة المدهشة بين صفحات "القاهرة وما فيها" تنتقل بالقاريء من بدايات عصر النهضة إلى عمق الخلافة الفاطمية التي أسست القاهرة، ومن شخصيات أسست مصر الحديثة في نهايات القرن التاسع عشر إلى أشهر من مرّ بهذه "البقعة المباركة"، كما وصفها، خلال القرن العشرين.

في دروب المحروسة:
"بعض المؤسسات صارت تتقاضى أموالاً عند منح حقوق هذه الصور للمصريين "أصحاب الحق الأصلي" باعتبارها مالكة للنيجاتيف، دوان اعتبار أن الأشخاص والمعالم مصرية، والأرض التي تم التصوير فيها مصرية، ولم يدفع المصور لأحد مقابل أخذ هذه اللقطات لمن صوره إلا بعض الفتات؛ فقد كان الأهالي فقراء ومساكين يرضيهم أقل القليل"..
افتتح عمدة وسط البلد كتابه الأخير بالحديث عن العاصمة التي يمتد أساس مبانيها الشهيرة إلى جذور التاريخ، وعرج في حديثه إلى مسقط رأسه ومعشوقته الأولى وسط البلد؛ ورغم الفخر الواضح في حديثه عن العاصمة التي "كُتب عنها آلاف الكتب والدراسات من مصريين وأجانب"؛ إلا أنه كذلك اعترف في مقدمته بأن الكتاب يحوي حكايات "البقعة المباركة" كما يُطلق على وسط البلد التي ولد وعاش فيها "وتنسمنا نسيمها وارتوينا من عشقها وعاصرنا تحولاتها وتأسينا على ما يجري لها"، مُقدّمًا في أوراقه الأخيرة "حوادث حدثت بالفعل بأدلتها التي شكّلت وجه القاهرة المُبهر الذي يعرفه العالم كله"، حسب ما كتب في مقدمته.
في حكايته الأولى "تبقى في بقك وتقسم لغيرك"، روى مكاوي المفارقة الساخرة التي أضاعت على "بسي بك" مدير مصلحة التليغراف في أيام الخديو سعيد باشا الأخيرة، والذي ظل ساهرًا ليلة وفاته ليحمل إلى الأمير إسماعيل ولي عهده خبر وفاة الباشا وتوليه عرش مصر؛ لكن سلطان النوم غلب البك المشتاق إلى الباشوية، لينتهز موظفًا صغيرًا من الأفندية الفرصة وينقل الخبر، ليصبح بك وينعم عليه الوالي الجديد بالعطايا.
وفي حكايته عن "علي مبارك وزكي جمعة" التقط العبارة الساخرة التي جاءت على لسان الفنان الكبير عادل إمام في مسرحية "مدرسة المشاغبين" حول علي باشا مبارك، أحد رموز التنوير في مصر، ليروي عن الرجل ما لا يعرفه عنه الكثير من المصريين، متوغلاً -رغم عباراته القصيرة- في الأسس التي وضعها مبارك للتعليم، حتى أنه ذكر لائحة إصلاح التعليم التي أصدرها في نوفمبر 1867 والتي كانت تتضمن أن يُصرف لكل تلميذ مجانًا "3 قمصان، طربوشان، 1 زر حرير، 3 لباس، 3 طواقي غزلية، 3 جلاليب ملونة شكل واحد مسدودة الصدر بياقة، 3 صديريات، 4 شرابات بيضاء، 1 كبود للشتاء على سنتين، أبتة حزام جلد بأبزيم، 3 دكات لباس".

حكايات السلطة وأصل المصطلحات:
"وتطورت الكلوتة أكثر وتضخمت وانتفخت من بعض الجهات، وارتفع ثمنها، وصارت دليلاً على الثراء أو الفساد، ويحدثنا المقريزي عن الوزير عبد الله بن زنبور أنهم وجدوا في ثروته ستة آلاف عمامة من طراز الكلوتة! ثم حدث للكلوتة عدة تطورات أخرى، بداية من العصر الجركسي حتى نهاية العصر الممملوكي في عام 1517، على أيدي العثمانيين، لكنها كانت تغيرات ثانوية لم تتعرض للخوط الخارجية للكلوتة"..
عاد عاشق القاهرة وتفاصيل تاريخها ليقص على قارئه حكاية أشهر المجانين الذين حكموا أهم عواصم الشرق، وهو الخليفة الفاطمي "الحاكم بأمر الله" ذو الأوامر الغريبة والاختفاء المفاجيء من الحياة وصفحات التاريخ، فروى عن أغرب أوامره إلى سكان ما صارت فيما بعد تحمل اسم "المحروسة"، مثلما قرر أن يعمل الجميع في الليل لا النهار، وأوامر تنظيم بيع الطعام في الأسواق، واصفًا تلك القرارات -التي يرى أنها تحمل شيئًا من الإصلاح- بأنها جاءت من "روح مصلح مجنون" كما وصفه؛ وانتقل بعدها إلى المقريزي الذي أخذ المصريون منه أصل كلمة "شربوش" التي لا تزال تُطلق في المقاهي على الغطاء الصاج الذي يوضع فوق حجر الشيشة ليقلل من دخول الهواء أو خروج الدخان حتى لا يحترق المعسل بسرعة، وهو ما بقى من تسمية كانت تُطلق يومًا على عمائم الأمراء التي كانت أقل حجمًا من عمائم السلاطين، وكان لها سوقًا هو "سوق الشرابيشيين"؛ وجاء من بعدها مصطلح لايزال الأشهر إلى يومنا وهو "الكلوت" الذي كان يُنطق في الأصل "كلوتة" وهي أخف من الشربوش لكنها تعادله قيمة، وكان جمعها "كلوتات"؛ كذلك يوّضح النطق الحقيقي لكلمة "كركون" التي تُطلق على أقسام ونقاط الشرطة، وهو الاسم الذي تم تحريفه من "قره قول"، الاسم الأول الذي أطلقه الوالي محمد علي باشا على مراكز البوليس التي جعلها ثمانية بعدد مناطق القاهرة آنذاك، وأيضًا تغيير اسم البرقوق في عهد السلطان الذي يحمل الاسم نفسه، حتى لا يسخر العامة من السلطان في الطرقات والأسواق.
رحلة مكاوي سعيد في مصطلحات الماضي كانت عميقة حقًا، فذكر خلالها الكثير مما لم يخطر ببال "كلوت بك"، الطبيب الفرنسي الذي أقنع الوالي محمد علي بتأسيس مدرسة الطب في أبو زعبل، والتي تطورت فيما بعد إلى كلية الطب في قصر العيني باشا. كانت محاضرات الرجل الفرنسية التي كان يُعيدها مترجمه الخاص على تلامذته بالعربية هي السبب في أطلاق لفظ "مُعيد" على أول درجات التدريس الجامعي حتى الآن.

البغايا والعاهرات والبلاط الملكي:
أما البغايا أو العاهرات، فسيدهشك أن الفراعنة كانوا يطلقون عليهن "أبناء آمون" بمعنى أبناء الإله، وكن بدورهن مجموعة من الطوائف ترأس كل طائفة "سيدة الحريم"؛ يخوض القاريء مع سطور مكاوي الشيقة رحلة في "محلات "المموساة" بين العايقة والمقطورة" ليعرف أن الفاطميين كانوا أول من سمحوا بخروج البغاء إلى العلن بسبب فرض الضرائب الباهظة؛ لكن الدعارة الرسمية سمح بها العثمانيون في الـ"كراخانت"، والتي كان يسجلهن "الصول باشي"، بينما يعمل "شيوخ العرصات" على مساعدة الشرطة في السيطرة على هذا المجال، لتظهر في سجلات الداخلية كل من "العايقة" و"المقطورة"، وهما نوعا العاهرات اللواتي يحميهن "البرمجي" في العطفة اللواتي يقمن فيها.
ورغم تناول عشرات المؤلفات للحياة في البلاط الملكي المصري في عهد الخديو إسماعيل -وهو مؤسس وسط البلد الذي رفض الحكم من قلعة الجبل كما فعل أسلافه وقام ببناء المنطقة على الطراز الأوروبي الذي كان يعشقه- وكان أشهرها ما كتبه ألفريد جاشوا باتلر، الرجل الذي قام بتعليم أبناء الخديو؛ إلا أن حديث حكّاء وسط البلد عن طقوس البلاط -الذي انتقل من قلعة الجبل إلى قصر عابدين- وأحداثه وآداب التعامل مع الملوك شيقًا حقًا رغم اعتماده على المصادر نفسها التي ربما تكون قد قرأتها قبلاً منفردة؛ فنقل بطريقته من الحكايات أكثرها تشويقًا، حتى تكاد ترى الداخلين إلى الحضرة الخديوية وهم يغلقون أزرار معاطفهم، الخدم يروحون ويجيئون بالأباريق الذهبية وآخرون منهم يحملون الطست والمناشف، وكذلك حاشية الخديو المختلطة التي نجح في جمع وئانها جميعًا، والعادات المصرية التي وصفها الكثير من المستشرقين بأنها "غريبة".

القاهرة تلفظ "المشخصاتية":
يحكي مكاوي كذلك عن هجوم الصحافة المصرية على مهنة التمثيل أو "التشخيص" كما كان يُطلق عليه في أوائل القرن العشرين، فأتى بنص هجوم صحيفة "المؤيد" على الكاتب الكبير "محمد بك تيمور" الذي عشق التمثيل رغم أن "التشخيص هو مهنة البلطجية والعاطلين وأبناء الأسر الفقيرة"، كما جاء في أحد مقالات الجريدة عام 1915؛ ليفتح به الحديث عن واحد من أهم عباقرة التمثيل في تاريخ السينما المصرية وهو الراحل "علي الكسار" الذي رغم انطلاقه ونجوميته لكنه رحل عن عالمنا مريضًا راقدًا في واحد من أسّرة الدرجة الثالثة بمستشفى القصر العيني؛ وتناول في موضع آخر من الكتاب قصة أشهر مطربي نهاية القرن التاسع عشر وهما "ألمظ" و"عبده الحامولي" كلاً على حدة، وليس كما يحدث عادة بجمع قصتيهما في حكاية واحدة؛ وأيضًا حكايات عن الشيخ درويش الحريري "شيخ الموسيقيين" في خمسينيات القرن الماضي، وعمالقة الموسيقى في القرن العشرين كالمحلن الكبير محمد القصبجي والشيخ زكريا أحمد والشيخ سيد درويش وذكرياتهما من واقع الأوراق القديمة وأحاديث الصحف.
ولا يُمكن الحديث عن "القاهرة وما فيها" دون ذكر السيدة هدى شعرواي، التي يحمل اسمها واحد من أشهر شوارع وسط البلد، صاحبة القصر الذي حمل رقم 2 في شارع قصر النيل، ليعرج في حديثه منها على المطربة فاطمة سري التي أحبها ابنها محمد بك شعراوي وتترك في بداية علاقتهما جرحًا غائرًا؛ إلا أن عشق البك للمطربة تكلل بزواج كانت الزعيمة الكبيرة قد واجهته بغضب عارم، ليشتعل صراعًا بين الهانم ذات الصيت الوطني والنفوذ الكبير وبين ربيبة "ملاهي عماد الدين" كما أطلقت عليها، لتينطلق الصراع إلى صفحات الجرائد.

بيرم ورامي وأم كلثوم:
"ظن بيرم أن أحمد رامي هو المحرك الحقيقي للمعركة التي بدأها ويقودها أبو بثينة ضده، بتأثير غيظه من أنه منذ عودته صار الشاعر الملاكي لأم كلثوم، لذا تحت تأثير هذه المعركة هاجم بيرم أحمد رامي في إحدى المجلات قائلاً: إن رامي قد هوى بأم كلثوم إلى الحضيض"..
من أبرز حكايات الفن والأدب في قاهرة القرن العشرين كذلك كانت حكاية الزجّال والشاعر الأشهر بيرم التونسي، الذي خاض في عشقه لمصر صراعات بلا نهاية واجه في أغلبها حظًا عاثرًا، بداية من النفي المتكرر بأوامر السلطان فؤاد الذي صار فيما بعد الملك فؤاد الأول، وحتى صراعاته مع أهل الفن وأشهرهم الشاعر أحمد رامي الذي ساندته في المواجهة كوكب الشرق أم كلثوم؛ لكن المنشدة التي قدمت إلى القاهرة مراهقة عُرفت بصوتها الساحر وصارت فيما بعد أيقونة الغناء العربي لم يكن عدائها خالصًا للرجل الذي أرهقته الغربة وقطع التذاكر طيلة حياته، بل كانت أول من نعاه في الخامس من يناير عام 1961 في حفلها الشهري بمسرح الأزبكية، عندما أخبرها القصبجي بوفاته فاغرورقت عيناها بالدموع وأسرعت إلى المسرح لتُعلن وفاته وتغني رائعته "الحب كده"، بدلاً من أغنية "يا ظالمني" التي كانت مُقررة في برنامج الحفل. 

كتابات وسط البلد:
"هذه النمرة الشرسة انقلبت إلى قطة وديعة مع أبناء بلدها أثناء العدوان؛ باعت ذهبها وبيتين وحظيرة بهائم بها مائة رأس، باعت كل ما اقتنته في عهد الفتونة، وصرّت المال في خمارها الأسود وحملته إلى المركز، واشترى المأمور -حسب طلبها- أسلحة باسمها وزعها على الأهالي. واستبقت المخبز لتوزع أرعفته على المقاتلين، وشاركت بقوتها الجسدية الهائلة في المعركة، ونالتها طعنة نجلاء من جندي إسرائيلي، فأمسكت أحشائها بيدها وجذبته من رقبته بيدها الأخرى، ثم القته تحت قدميها وهرسته"..
فرد الراحل الكبير في آخر أوراقه كذلك مساحة لا بأس بها للحديث عن الكتب أو الروايات التي تناولت وسط البلد؛ ومنها أشهر مناطق الفتونة والبلطجية التي أسرت بحكاياتها القديمة الأديب العالمي نجيب محفوظ ففرد لها عالمًا كاملاً من الحكايات استحق عبره أن يحصد الجائزة الأدبية الأرفع في العالم. تناول مكاوي سعيد في كتابه الدراسة التي قامت بها الكاتبة الصحفية الكبيرة جاذبية صدقي في منتصف القرن الماضي حول الأحياء الشعبية في مصر وخاصة أحياء القاهرة. تحدث عن "الحسينية" التي هي في حقيقة الأمر شارعًا واحدًا يمتد من بوابة الفتوح وحتى "مسجد سيدي علي البيومي"، إلا أن محفوظ صنع منه عالمًا واسعًا خرجت منه عشرات الحكايات وأسر آلاف القراء؛ وتناولت صدقي في دراستها كذلك واحدة من أشهر بلطجية منتصف القرن العشرين وهي "أم شكرية" التي وصفتها بأنها "تلاً يتحرك" قادت خلال حرب السويس التي عُرفت شعبيًا باسم "العدوان الثلاثي" أكثر من مائة وعشرين امرأة مسلحة لحماية القناة في بورسعيد في أعقاب التأميم.
تناول مكاوي في عجالة أيضًا الرواية الصادرة قبل عامين عن دار النشر نفسها -المصرية اللبنانية- والتي تحمل عنوان "ثلاث سويديات في القاهرة"، قائلاً إن أكثر ما جذبه في هذا العمل "تفاصيل القاهرة الساحرة في الفترات التي صارت بيننا موغلة في القِدم، وحياة هذه العائلة وتفاعلها معنا في كل الأحداث الجسام التي مرت بوطننا"؛ وأيضًا رواية "بيت العائلة" الصادرة عام 2000 للكاتبة سامية سراج الدين، ابنة الأخ الأصغر لآخر الزعماء التاريخيين لحزب الوفد فؤاد سراج الدين باشا، والذي حمل حكايات وصفها مكاوي في أوراقه الأخيرة بـ"المدهشة" عن رجال العائلة المنهمكين في العمل بالسياسة والتجارة وزراعة القطن، والنساء المنهمكات في الزيارة وتبادل النميمة والتسوق وترتيب الزيجات وغيرها من الأمور العائلية.

"أروى" التي صارت جاردن سيتي:
"في عام 1828 أمر إبراهيم باشا أثناء وجوده في اليونان علي أفندي كاتب الخزينة بإزالة الكيمان الموجودة بين القصر العالي والقاهرة، المعروفة بتل العقارب، ومساحتها حوالي ثلاثة فدادين، فأزيلت في 393 يومًا، كما أزيلت التلال الواقعة بين الناصرية والقصر العالي ومساحتها 38 فدانًا وغُرس فيها أشجار زيتون، وانتهى العمل في يناير 1830، وعندما تولى الخديو إسماعيل الحكم أمر بردمها، وقام بشراء كل المنطقة بما فيها من أبنية وبيوت تمهيدًا لبناء سراي الإسماعيلية الكبرى".
أسهب عمدة وسط البلد الراحل في كتابه الأخير في الحديث عن منطقة جاردن سيتي، متناولاً أدق تفاصيلها في فصل حمل اسم "ما لا تعرفه عن جاردن سيتي"، منذ انتقى السلطان الناصر محمد بن قلاوون موضعًا قديمًا غامرًا بماء النيل وزرع فيه أشجارًا، وجعله "الميدان الناصري"، وخصصه لعروض الخيل؛ وهو المكان نفسه الذي ذكره المقريزي باسم جزيرة "أروى" أو الجزيرة الوسطى التي تقع بين الروضة وبولاق والقاهرة والجيزة، حيث كانت مياه النيل تمر بين "جزيرة العبيط" -وهو أحد أسماء المنطقة- وباب اللوق.

عن شكسبيرة الزمالك:
"وعادت الأميرة نازلي معه، وصارت لها علاقة طيبة بالخديو توفيق، مما دفعها لطلب العفو عن الإمام محمد عبده بعد الحرب العرابية وإعادته إلى مصر ورد اعتباره، وقد قوبل طلبها بالموافقة وصارت لها حظوة. وكانت نازلي تجيد الإنجليزية والفرنسية والعربية والتركية، وتُعتبر أول امرأة مصرية تتشبه بالأجانب. حيث كانت تختلط بالرجال على غير العادة، ولا ترتدي الحجاب الذي كان الزي المتبع في هذه الفترة"..
يحكي مكاوي سعيد في عدة صفحات حكاية الصالونات الثقافية في قاهرة المحروسة، فعاد إلى الحكاية الأقدم وهي حكاية صالون الأميرة نازلي فاضل، التي عقدت صالونها في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين في الحي الذي قرر الخديو إسماعيل أن يحكم مصر منه وهو حي عابدين، والذي كان يُعتبر آنذاك مقر الأرستقراطية المصرية، وضم العديد من الشخصيات اللامعة في المجتمع المصري، منهم سعد زغلول وقاسم أمين وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وطلعت حرب؛ في الوقت نفسه كان هناك من الطبقة نفسها من نصبوا لها وللصالون العداء، وكان أشهرهم الزعيم محمد فريد الذي اتهمها بمناصرة الإنجليز؛ كذلك تناول في بقية الحكاية الصالون الشهير للأديبة مي زيادة التي كان صالونها ملتقى لصفوة كتاب مصر والعرب، ومنهم المازني والعقاد وأحمد لطفي السيد والرافعي وطه حسين.
مفاجأة الحكاية كان حديث مكاوي عن الصالون الشهير في حقبة الأربعينات وبداية الخمسينات في الزمالك لكنه صار فيما بعد في حقبة النسيان، والذي أطلقت عليه الصحافة المصرية وقتها "صالون شكسبيرة الزمالك"، وكانت صاحبته -للمفاجأة- هي الفنانة الشهيرة زينب صدقي التي عملت مع مسرح رمسيس والريحاني وفرقة عبد الرحمن رشدي، والتي عرفها جمهور السينما المصرية في دور الأم الشهير في فيلم "بورسعيد"، والناظرة طيبة القلب في فيلم "عزيزة"، وكذلك جارة عبد الحليم حافظ الطيبة في فيلم "البنات والصيف"؛ إلا أنها -والكلام لصاحب تغريدة البجعة- كانت سيئة الحظ بحيث فُقدت أغلب أعمالها المسرحية إلى الأبد دون أن يتم تسجيلها.

كل ما تناولناه في هذه السطور ليس إلا جزءًا قد تيسرت قراءته من تحفة مكاوي سعيد الأخيرة. كأن الرجل قد وضع خلاصة ما عرفه عن منطقته الأثيرة وسط البلد، والتي كان قرأها أو سمع عنها طيلة حياته التي قضى أغلبها يطارد الحكايات التي دعّمها بالمراجع والتفاصيل والحواشي، ليصير "ميكي" عن استحقاق "عمدة وسط البلد" الذي كان يعرف عن منطقته تفاصيلها بالكلمة والحرف والحكاية.
حقًا.. تستحق أوراق مكاوي سعيد الأخيرة أن تحتفظ بها للأبد.