الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مركب "الحاج نصر"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تخيلت نفسى للحظات قليلة على متن مركب «الحاج نصر»، التى غرقت منذ أيام قبالة السواحل الليبية، وفجأة انتابتنى مشاعر لم أعشها من قبل، خوف وفزع وهلع وتوسل ودعاء، وأمل مشوب باليأس.
الظلام فى كل مكان، تمزقت خيوط النور بفعل تلك الأمواج العاتية حالكة السواد، كل ما أسمعه استغاثات من حولي، الكل يطلب النجدة من الكل، لا يستطيع أحدنا أن يمد يده للآخر، كل ما يفكر فيه كيف ينجو هو؟، كيف يصل للشاطئ الذى يبعد ٢٠ مترًا وتقف الحياة تنادى من فوق رماله، لكن هيهات صوت الأمواج أقوى من صوتها وكأنه يقول لها: لا حياة لمن تنادي.
تعالوا معى نعرف القصة من بدايتها، لكن علينا جميعًا أن نتأكد أن حادث مركب «الحاج نصر»، التى كانت تقل ١٥ صيادًا بسيطًا من أبناء قرية برج مغيزل التابعة لمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ لم تكن الأولى من نوعها ولن تكون الأخيرة، فقد سبقها حوادث كثيرة بنفس السيناريو المظلم كانت نتيجتها فقدان وغرق العشرات من المصريين، ومصادرة العديد من المراكب وسجن المئات فى سجون ليبيا وتونس.
ولنسأل أنفسنا، من يدفع ثمن تلك الحوادث؟، والإجابة: الضحايا دائمًا هم الصيادون البسطاء، لا أصحاب المراكب الذين يربحون وتتزايد ثرواتهم كلما كثرت هموم هؤلاء الضحايا، وتمتلئ «كروشهم» كلما جاعوا، ويرقصون على جثثهم مترحمين عليهم، ثم يبحثون عن ضحايا آخرين من أجل المزيد والمزيد من المال.
تلك الحوادث يدفع ثمنها هؤلاء البسطاء ممن يعملون باليومية، «وكالة» عن أصحاب المراكب الذين يجازفون بحياة غيرهم طمعًا فى صيد ثمين، «وسمك» وفير، ومال غزير، دون اكتراث بعواقب كبيرة أقلها السجن، مرورًا بمصادرة المراكب وانتهاءً بغرق الصيادين.
أهالى المفقودين من أبناء قرية برج مغيزل، اكتسوا بالحزن والدموع بعد فقد أبنائهم فى عرض البحر، ومرور أكثر من ٢٤ ساعة على فقدهم دون معرفة أى شيء عنهم، بعد علمهم بغرق المركب وسط الأمواج دون أمل فى العثور على أحد.
لنقرأ جميعًا ثم نبكى دمًا، بعد أن نقف عند كلمات السيد عبدالسلام بهنسى أحد الصيادين الناجين، والذى قال: «خرجنا بمركب «الحاج نصر»، للصيد من بوغاز رشيد كما تعودنا، وتوجهنا للصيد فى المياه الدولية على سواحل ليبيا،حيث يكثر وجود الأسماك هناك، وبعد أن انتهينا من الصيد وفرحنا بصيدنا الثمين وحمدنا المولى عز وجل على رزقه، وأثناء استعداد المركب للعودة بعد عشرة أيام من بداية رحلتها، فوجئنا بمركب مجهول يستقله مجموعة مسلحة، قاموا بإيقاف مركبنا، وعرفنا أنهم ميليشيات مسلحة تابعة لبعض الجماعات الإرهابية فى ليبيا، هاجمونا واقتادوا المركب قرب الشواطئ الليبية، وطالبونا بدفع فدية كبيرة وإلا ستتم مصادرة المركب وسجن الصيادين وقتل من عليها.
«بهنسي» ما زال يبكينا ويبكى معنا: «تم حجزنا على متن المركب لمدة أسبوع وعاملونا معاملة قاسية، وبعد مفاوضات مع صاحب المركب فى كفر الشيخ، تم دفع ربع مليون جنيه كفدية، وقاموا بالاستيلاء على ٣٠٠ طاولة سمك، دون أن يتركوا لنا ما نعود به لأبنائنا الذين ينتظروننا، لكن قلنا الحمد لله أننا ما زلنا على قيد الحياة، وتحركنا ولم نكن نعرف أن القدر يخفى لنا مفاجأة أخرى، فعندما اقتربنا من الشواطئ المصرية الليبية، بين طبرق والسلوم، هاجمتنا عاصفة شديدة تعطلت المركب بسببها لمدة يومين، ولم نستطع الإبحار بعد محاولات عدة، واشتدت العاصفة وتراقصت بالمركب يمينًا وشمالًا، وبدأ الموج يرتفع ويرتفع حتى دب الخوف فى قلوبنا جميعًا، وفجأة وخلال دقيقتين دفعتنا الأمواج خارج المركب التى انقلبت وابتلعها البحر فى «غمضة عين»، رغم أننا كنا على بعد عشرين مترًا فقط من الشاطئ.
أرجوكم استكملوا بكاءكم، واقرأوا ما باح به «بهنسي»: بعد ذلك وجدت نفسى فوق الصخور بعد ساعتين من الإغماء، وتم نقلى من ليبيا عبر معبر السلوم إلى مستشفى النجيلة بمرسى مطروح، أنا وزميلى «حمدى سعفان»، بعد أن نزفت الدماء واختلطت بالأمواج التى ابتلعت زملاءنا، وابتلعت شقيقى الذى لم أتمكن من إنقاذه ولم أره نتيجة ثورة البحر الذى كان كالبركان الهائج، ولم يرحمنا ولم يستمع لتوسلاتنا، لكنه معذور فهو لا يعرف أنننا نعمل بـ«اليومية»، وأن ما نتقاضاه لا يصل إلى مائة جنيه فى اليوم، وظن أننا أتينا لنأخذ سمكه ونسلبه إياه.
هذا ما قاله «بهنسى»، فماذا نحن فاعلون؟، هل سيتم إجبار أصحاب المراكب للتأمين على حياة هؤلاء الصيادين البسطاء؟، هل سيتوقف موظف باع ضميره وقبض ثمنه ليتغاضى عن عدم التأمين عليهم؟، هل سنشرع قانونًا يضمن ويوفر الأمان لهم؟، هل؟، وهل؟، وهل؟.. فهل من مجيب؟.. وإلى لقاء.