الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة "المـــــــلاك التـــــائـه"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«فيمازحنى بأن ملاكه المجنح به قوة خرافية تجعله يطير بسرعة فائقة، كصاروخ مُوَجّه بنسبة خطأ لا تُذكر، أصدقه مندهشًا وألمس أجنحة الملاك بأناملى الرقيقة، يخبرنى أبى فخورًا مزهوًا ببطولة الحصول على هذا الملاك من خلف خط بارليف».
تذكرتُ سيارتنا التى باعها أبى قبل موته بسنتين تقريبًا، تذكرتها عندما ازدحم الطريق أسفل كوبرى غمرة، كعادة أوقات الذروة الصباحية، كنت متجهًا إلى الكلية، محشورًا فى أتوبيس «٢٨ج»، وهو أتوبيس ينطلق من موقف القللى وينتهى خط سيره أمام مبنى قطاع المعاهد الأزهرية الرئيسى فى الحى السادس بمدينة نصر، ينطلق من أمام مصلحة البريد الرئيسية فى القللى خاليَ الطُرقة مكتملَ المقاعد، يتوقف قليلًا أمام مسجد الفتح فى رمسيس فيمتلئ بالتدريج ليصل إلى غمرة وقد مال قليلًا إلى جانبه الأيمن ووقف الركاب على سلالمه بأنصاف أجسادهم يتمسكون بما يتاح لهم التمسك به من الباب أو نافذة الكُمسارى أو حتى ملابس أى شخص أمامهم، يكافح الأتوبيس فى مطلع كوبرى أحمد سعيد، يصعده ببطء شديد مثيرًا الكثير من العادم والجلبة والضوضاء، فتتجاوزه السيارات التى يسب قائدوها سائق هذا الجحيم، والذى يطلق نفيرًا احتفاليًا بهبوط الكوبرى وتجاوز المطلع الصعب ومروره بسلام أمام مستشفى الدمرداش الصاخب والكاتدرائية المهيبة، يتخفف قليلا فى العباسية، فربما كان من الركاب موظفون فى وزارة العدل أو طلاب من جامعة عين شمس، وأمام بوابة نادى السكة الحديد، فيعتدل تحت كوبرى المشاة المار فوق طريق الأوتوستراد، ويخف عادمه وينتعش مثل سيدة كانت تعانى آلام المخاض منذ دقائق ووضعت حملها أخيرًا واستراحت بعد جهد عظيم، يكاد أن يفرغ حين يصل إلى بوابة جامعة الأزهر أمام نادى النصر الرياضي، إذ إن المبنى العريق الملحق بجامع الأزهر الشريف ذى أشهر مئذنتين فى المحروسة أمام المشهد الحسينى فى الدراسة، خُصِصَ لكليات أصول الدين والشريعة والقانون واللغة العربية فقط، أما المبنيان الحديثان فى مدينة نصر، فأحدهما للبنين، والآخر للبنات، كانا يضمان الكليات العلمية والعملية كالطب والصيدلة والهندسة والزراعة والتجارة واللغات والترجمة إلى آخر تلك الكليات غير المعنية بدراسة العلوم الشريعة فى الأساس، لكن الإمام الأكبر شيخ الأزهر أصدر قرارًا بتعميم حفظ القرآن الكريم كاملا بجانب مادتى التفسير والحديث أيضًا، على جميع الأزهريين الجامعيين، مهما كانت الكلية وأيًا كان التخصص، فإن كان فضيلته قد تخلى عن شرط التقيد بمظهر الجبة والقفطان والكاكولا للطلاب، فلن يتنازل أبدًا عن جوهر ومنهج الرسالة الأزهرية ومضمونها.
«٢٨ج» كان أغلب ركابه من طلبة وطالبات وموظفى تلك الجامعة، بل إن هيئة النقل العام أضافت هذا الخط وَسَيَّرته فى الأساس لخدمة مرتادى جامعة الأزهر الجديدة، وتحديدًا الريفيين الذين يصلون إلى محطة مصر فى قطارات تمر من قراهم البعيدة فجرًا، كنت ذاهبًا للكلية فى صباح ذلك اليوم بعد سهرة عمل معتادة فى المخبز الأفرنجى الملاصق لمركز الشباب، والذى أعمل به مساعد شيف، أعجن الفينو وأضع السمسم على البقسماط وأغسل الأدوات وحلة العجين وأنظف الصاجات وأكنس وأمسح بلاط المخبز قبل أن أنصرف، اثنتا عشرة ساعة هى زمن الوردية الليلية الشاقة التى تبدأ فى السادسة مساءً وتنتهى مع شروق الشمس، مقابل ستة جنيهات، آخذ جنيهًا أذهب بنصفه إلى الكلية وأعود بنصفه الآخر فى الواحدة ظهرًا، وأعطى الخمسة جنيهات كلها ورقة واحدة لأمي، أعود من الكلية يقتلنى التعب، فأنام بملابس الخروج وأحيانًا دون خلع الحذاء، خمس ساعات بالكاد لأبدأ وردية العمل فى المخبز القريب من شقتنا، كانت أمى قد قررت غلق بيتنا الكبير فى البلد، بعد فترة اغتراب فى الدلتا وإقامة لم تدم أكثر من ثمانية أعوام أنهتها حين تشاءمت من عتبته- كما تقول- عقب وفاة أبى هناك، لكن السبب الحقيقى وراء عودتنا هو عدم مقدرتها على التأقلم بعيدًا عن شبرا وجاراتها فى حارتنا، عدنا إلى موطننا الأصلى ومسقط رؤوسنا جميعًا فى روض الفرج فى تلك الشقة الصغيرة فى بيت عم عبدالهادي، والتى لا تتساوى- فى مساحتها الإجمالية- مع ردهة بيتنا الكبير الواسع فى البلد، باع أبى فى مرضه الأخير مصاغ أمى كاملًا وباع السيارة البيجو الزرقاء بملاليم، كان قد اشتراها لنا موديل سنتها فى أوائل الثمانينيات، لتتماشى مع وضعه الاجتماعى الجديد، وبها زفَّ كل بنات العائلة والجيران والبلد إلى أزواجهن، كنت كلما بحثت فى خزانة أمى عن ورقة رسمية أحتاجها كشهادة ميلاد أو شهادة مدرسية أصادف صورة لزفاف أى فرد من أقاربنا، السيارة البيجو بطلة الصورة، والعريس والعروس يلوحان- من نافذتها الخلفية - للمصور بيديهما فى ابتسامة عريضة، يظهر أبى فى بعض الصور وأحيانا لا يظهر.
كان بعد انتهاء الحرب وبداية بناء وتعمير البلاد وتدشين مدن جديدة على أطراف القاهرة، فى فترة الانفتاح، قد تقدم باستقالته من الوظيفة الحكومية فى أرشيف وزارة الداخلية، لم يُطق بعد الحرب وحياة الخنادق والجبهة، رتابة الحياة المدنية وتفاهتها خلف مكتب فى بدروم يقضى فيه ست ساعات محاطًا برفوف متربة عليها ملفات ودوسيهات لأفراد الشرطة، وكل مهمته فى الحياة ترتيبها أبجديًا وإخراج أى دوسيه يطلبه رئيس الأرشيف ليطلع عليه من طلبه من المسئولين، تعلم صنعة القيشانى والسيراميك، على يد معلم كبير من حى السيدة عائشة، اسمه عطية الزلط، تعرف عليه فى مقهى عال عن الشارع بسلم خرسانى كبير، مقهى السلمونى فى ميدان السيدة، ملتقى ومقر ومعقل جميع الصنايعية والحرفيين فى السيدة والبساتين والإمام الشافعي، كان الزلط رجلا طيبًا كبير السن، مقاول سيراميك وقيشانى ذائع الصيت منذ أيام «بالاتحاد والنظام والعمل» شعار الحقبة الناصرية، دخل المقهى يبحث عن عامل يساعده، وقتها كان أبى يبحث عن من يعلمه الصنعة، عرض أبى خدماته على الزلط الذى تفحصه قليلا ثم أعطاه حقيبة العدة ومضيا إلى موقع العمل، أحب الزلط أبى لأنه يذكره بابنه الشهيد فى الحرب.

قصة لـ «أشرف ضمر»