الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عندما تصبح المكتبة ضرورة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«عندما تصبح المكتبة فى البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسى والمطبخ، عندئذ يمكن القول إننا أصبحنا قوما متحضرين»، وبناء على ما قاله ميخائيل نعيمة؛ فإن المكتبة ليست من كماليات الحياة ولا يحق لإنسان أن يربى أولاده دون أن يحيطهم بالكتب كما قال «بيتشر» الذى من المؤكد أن من يبررون لأنفسهم الاستهانة بالكتب لا يعرفونه.
كما أنهم لم يسمعوا ما قاله الجاحظ «إنى لا أعلم شجرة أطول عمرًا ولا أطيب ثمرًا ولا أقرب مجتنى من كتاب». فنحن كما قال فنسنت ستاريت: «عندما نجمع الكتب نجمع السعادة»، لكن ظلامى كل عصر يستكثرون علينا هذه السعادة، لذا تجدهم يجمعونها من كل حدب وصوب ليدمروها ويحاربون أصحابها بدعوى احتوائها على أفكار ضد معتقداتهم وهى ليست كذلك لو يعلمون.
تاريخنا حافل بالمعارك التى خسرنا فيها كنوزًا نفشل فشلًا ذريعًا إذا ما حاولنا تقدير قيمتها، وهنا تحضرنى واقعة تعود إلى أوائل القرن الثانى الميلادى، حينما تم إجبار القاضى والفيلسوف ابن رشد على مشاهدة كتبه ومعها مئات الكتب لعشرات الفلاسفة والمفكرين، وهى تحرق فى الساحة الكبرى بإشبيلية، وسط تهليلات وتكبيرات الغوغاء الذين لا يعترفون بالعقل ولا يعرفون إلا النقل والتسليم به.
إن حرق كتب ابن رشد والفارابى وابن سينا وابن الهيثم لا يزال يندى له جبين إشبيلية، وهو فعل إجرامى دون شك؛ لأنه يحمل فى طياته تحريضًا على القتل بدعوى زندقة وكفر أصحابها تماما، كما حدث مع ابن المقفع الذى أحرقت كتبه وأمر سفيان بن معاوية بإحضاره وتقطيع أعضائه وإلقائها فى النار، وقد قال له سفيان: «ليس علىّ فى المثلة بك حرج، لأنك زنديق قد أفسدت الناس».
تاريخنا ينبعث منه دخان وغبار الكتب المحروقة والمدمرة فى مكتبة الإسكندرية، والمكتبة الفاطمية فى عهد صلاح الدين الأيوبى، ومكتبة المنصور فى قرطبة.
تاريخنا ملىء بالخوف والرعب الذى أجبر بعض المفكرين والكتاب على حذف أجزاء من كتبهم أو إحراقها بالكامل، فها هو يوسف بن أسباط الذى وضع كتبه داخل مغارة فى أحد الجبال وسدها بحجر لكى لا يعثر عليها أحد، والصوفى أبى سليمان الدارانى الذى جمع كتبه وأحرقها وأخذ يردد وهو ينظر إليها فى التنور: «والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك»، والزاهد سفيان الثورى الذى مزق كتبه، وقال بعد أن نثرها فى الريح: «ليت يدى قطعت من ها هنا بل من ها هنا ولم أكتب حرفًا»، والنحوى والقاضى أبى سعيد السيرافى الذى أوصى ابنه بحرق كتبه، وطه حسين الذى نصحه المحقق أن يحذف بعض ما جاء فى كتابه «الشعر الجاهلى» لكى تمر أزمته بسلام.
إن من يستهينون بالكتب لا يتورعون عن الاستهانة بالبشر أو كما قال الشاعر الألمانى هاينرش هاينه: «من يحرق الكتب يحرق البشر كذلك».