الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "7"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نجد أيضًا لدى الفلاسفة المحدثين القائلين بالمثالية المطلقة نموذجًا آخر لهذا التوحيد بين «القيمة والحقيقة». فالمطلق- عند هؤلاء الفلاسفة- هو مصدر القيم، إن لم نقل بأنه «القيمة نفسها. وعبرت فلسفة «هيجل» Hegel (١٧٧٠– ١٨٣١) أوضح تعبير عن نزوع المعرفة الدائم إلى المطلق الذى هو غاية نسعى إلى تحقيقها، وقد رأى أن الحقيقة هى الكل، وهذا الكل هو الماهية المطلقة والأساسية. والحقيقة العليا هى المجموع التام لما يوجد والغاية النهائية له، وهى الكل فى أعلى مظاهر تحقيقه أى «الروح»؛ وهذه الروح تتبدى جزئيًا فى مظاهر عديدة وتكشف عن نفسها فى مجالات مختلفة، فهى المعنى الأساسى فى كل ما يوجد.
وتناول «فرنسيس هربرت برادلي» F. H. Bradley (١٨٤٦– ١٩٢٤) مفهوم الحقيقة فى سعيه نحو بناء نسق فكرى متكامل، يكون معيار للأحكام التى تصدر عن الفكر. والحقيقة-على نحو ما تعبر عن ذاتها فى الأحكام - تعانى من التناقض الذاتي، لأنها تنطوى فى داخل ذاتها على ما يناقضها أى إلى شيء مغاير لها أو نقيض لها وموجود خارجها. لذلك فإن معنى سير الحقيقة فى طريق كمالها، إنما هو سيرها فى طريق كل ما تشير إليه داخل ذاتها وبحيث تصير هى وهو شيئًا واحدًا؛ ومن ثم ينتفى ما تعانيه من تناقض ذاتى ويتحقق بذلك اتساقها الذاتي. وعلى هذا الأساس تعبر الحقيقة عن غاية وقيمة عليا تهدف إليها فى سعيها نحو كمالها الأقصى، هذه القيمة هى «المطلق». والمطلق عند «بوزانكت» Bosanquet (١٨٤٨– ١٩٢٣) لا يختلف كثيرًا عن المطلق عند «برادلي» فهو المثل الأعلى الذى نصبو إليه، وهو النجم الذى يهدينا فى الارتقاء بطبيعتنا؛ وهو الوحدة العليا التى تشمل الخاص والعام، والطبيعى والروحي، والضرورة والحرية، هذه الوحدة هى التى تتطلع إليها الميتافيزيقا. والحقيقة- من هذا المنطلق- لا توجد إلا فى نسق بحيث تكون علامتها المميزة هى «الترابط» أى التوافق فى ارتباط جميع الأجزاء فى كل منظم بحيث يبدو فى النهاية على صورة نسق متكامل، يصل من خلاله إلى المثل الأعلى أى «المطلق». 
ويلاحظ «لوى لافيل» أن ثمة علاقة تبادلية بين مقولتى «القيمة» و«الحقيقة»، إذ إن هناك قيمة للحقيقة، كما أن هناك حقيقة للقيمة. وفيما يتعلق بقيمة الحقيقة- والتى تظهر فى المقابلة بين الحقيقة والخطأ – تصبح الحقيقة موضوعًا للبحث والتحليل، أما ما يخص حقيقة القيمة؛ فإن القيمة ذاتها لا يمكن أن تكون مرغوبة أو مرادة إلا إذا كانت قابلة لأن نتعرف عليها من خلال شرط تحقيقها، أى من خلال القاسم المشترك بين جميع القيم، ألا وهى القيمة الدينية أو الروحية. ويخبرنا «لافيل» عن المنهج المتبع لفهم الحياة الروحية، والذى يقتضى معاينة الأعماق الباطنية للنفس. بمعنى أنه علينا- وفق المنهج المقترح- أن ننطلق من خلال الدين إلى فكرة الكمال الأعلى، إلى الفكرة التى تجعل من القيمة ليست غاية نسعى إليها وإنما حضورًا نشارك فيه. كما أن القيم الدينية أو الروحية تعبر عن «المطلق»، كما أنها تعبر- وبطريقة رائعة- عن الطابع الروحى الذى لا ينفصل عن كل القيم جميعًا؛ هذا لأن كل القيم هى موضوع للإيمان. 
والحق أن المعادلة القائلة بأن اللا قيمة= اللاحقيقة هى المقدمة التى يترتب عليها ذلك المذهب القائل «بإنكار العالم» أو «لا واقعية العالم». وتبعًا لهذه الوجهة من النظر، يكون القول بأن «العالم غير حقيقي» حكمًا من أحكام القيمة، لا يعنى سوى أن العالم خلو من كل بركة إلهية أو أنه تافه عديم القيمة. والقول بلا حقيقية العالم يرتبط دائمًا ارتباطًا خاصًا بنسبة طابع «الجريان المتصل إلى العالم». ففى مذهب «أفلاطون» مثلًا نلاحظ أن صفة «اللاحقيقية» مرتبطة بصيرورة العالم. وآية ذلك أن الوجود «حقيقي»، أما الصيرورة- نظرًا لأنها تشارك فى كل من الوجود واللاوجود- فإنها نصف حقيقية. وقد كانت فكرة لا حقيقية الزمان مذهبًا مفضلًا بالنسبة للفلاسفة المثاليين، على الرغم من أن المكان والمادة عندهم قد لا يقلان عن الزمان فى كونهما لاحقيقيين. وإذا كان الطابع الوهمى للعالم يعنى فى النهاية تفاهة العالم أو عدم قيمته، فإن انقضاء الأشياء أو عدم ثباتها هو- فيما يبدو لمعظم الناس- العامل الأساسى الذى يسلبها قيمتها. والواقع أن انقضاء الأشياء يحزننا أكثر مما يُسعدنا، وانقضاء الزمان يعنى، بالنسبة إلى الغالبية العظمى منا، فقدان أعزائنا، وحلول الشيخوخة، واقتراب الموت، ومن هنا فإن جريان العالم يتحد فى مخيلة البشر اتحادًا وثيقًا «بالشر» القائم فى العالم، والتفاهة الباطنة فى الأشياء. وتبعًا لذلك، فإنه إذا كانت «اللاحقيقية» تعنى التفاهة أو انعدام القيمة، فإن الزمان والتغير هما الأمران اللذان نستشعر أنهما «لاحقيقيين».