الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

المصريون ومعرض الكتاب

الدكتورة إيناس عبدالدايم
الدكتورة إيناس عبدالدايم وزير الثقافة تتنفقد معرض الكتاب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
المصريون ومعرض الكتاب.. انطلاق الحدث الثقافي الأبرز عربيًا
ساعات قليلة تفصل بين قراءتك لهذه السطور والافتتاح الرسمي للدورة 49 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الحدث الأبرز للثقافة المصرية الذي ينتظره الكتاب والمثقفون ومحترفو القراءة، وحتى الباحثون عن ساعات من الترفيه والمتعة.
مساء اليوم تفتتح الدكتورة إيناس عبدالدايم وزير الثقافة المعرض، وسط احتفاء كبير من الوسط الثقافي المصري والعربي، وفي صباح الغد السبت يبدأ المعرض في استقبال زواره الذين تجاوز عددهم الدورة الماضية الستة ملايين زائر، من مختلف الشرائح العمرية والمستويات الاقتصادية والاجتماعية.
الجميع يذهب إلى المعرض باحثًا عن ضالة ما.. كتاب جذبه إعلانه الترويجي أو شكل الغلاف، أعداد قديمة أو كتب نادرة قد تخرج من أكوام التراب في سور الأزبكية، أسطوانات لتعليم لغة أو مهارة للحاسب الآلي، وربما لعبة رخيصة يشتريها لأطفاله، أو كتاب للطبخ تبحث عنه زوجته لواحد من هؤلاء الشيفات الذين تمتلئ بهم شاشات التلفاز.. كل هذه ثروات صغيرة يبحث عنها رواد المعرض في ساعات يقتطعونها من حياتهم اليومية، بحثًا عن ساعات أخرى سوف يقضونها مع هذه المقتنيات عند عودتهم فينسون تعب ساعات التجول والبحث.
السطور التالية تأخذك في رحلة سريعة تستغرق أنت في قراءتها دقائق، بينما تحمل هي في طياتها حديثًا عن خبرة تجول صاحبها في أروقة المعرض منذ أكثر من 20 عامًا، شهدت مئات الزيارات كانت أغلبها يومية استمرت طيلة الساعات التي يفتح فيها المعرض أبوابه.

قواميس وألعاب وأشياء أخرى.. ماذا يحدث في الطرقات؟
لا تخلو طرقات أرض المعارض أبدًا.. هناك دومًا السائرون من الزوار الذين يحملون العديد من الحقائب المليئة بالكتب أو ألعاب الأطفال، أو الأسطوانات المدمجة التي تحتوي على دورات تعليم اللغات، أو صناعة وإعداد الصور أو المونتاج، أو القواميس الإلكترونية.. أغلب هذه الأشياء سوف تجدها في منطقة العرض المكشوف بجوار بوابة ممدوح سالم بعد أمتار قليلة من بوابات الدخول.
المتطوعون ودليل المعرض
السائر في هذه الطرقات سيجد الكثير من الشباب والفتيات ممن يقفون بابتسامة بلاستيكية لا تتغير، وهم يحملون في أيديهم أوراق الدعاية للقواميس الإلكترونية المتعددة، وأحدث دورات الفوتوشوب وامتحانات التوفيل وغيرها.. مع التقدم وعبور هذه المنطقة نجد هناك آخرين ممن تطوعوا في برنامج المرشدين، لتسهيل وصول رواد المعرض إلى الأماكن التي يرغبون في زيارتها.. ستجد أكثرهم بجوار مكتب الاستعلامات ومعهم نموذج «عم أمين»، وهو ذلك التطبيق الإلكتروني الذي أطلقته الهيئة العامة للكتاب، الجهة المنظمة للمعرض، من أجل شباب الزوار الذين اعتادوا استخدام التقنيات الحديثة، فيما يساعد المتطوعون كبار السن أو القادمين من المحافظات الأخرى والذي ليست لديهم فكرة عن ذلك التطبيق الذي يحتوي أماكن وأسماء دور النشر، ومواقعها في صالات العرض المختلفة.
نزهة الأطفال
على جوانب الطرقات المليئة بالمساحات الخضراء ستجد المئات جالسين على المصاطب الأسمنتية، من أجل الراحة والتقاط الأنفاس، أو صور «السيلفي» التي ستجد الكثيرين يبيعون عصاها الشهيرة في مختلف جوانب أرض المعارض.. هناك أيضًا من جلسوا لتصفح غنائمهم من الكتب والعناوين الجديدة، أو من ينفضون الغبار عن أعداد قديمة من مجلاتهم أو كتبهم المفضلة التي استطاعوا الحصول عليها من سور الأزبكية.. كذلك يُمكنك رؤية الكثير من الأطفال الذين يعتبرون المعرض نزهة مع عائلاتهم وذويهم، ولا يرغبون منها إلا في بعض الألعاب التي تُباع على هامش الصالات، أو مجموعة من مجلات التلوين والرسم.. هؤلاء قد يقتصر برنامجهم على أماكن محددة تعقبها فترة للاستراحة على العشب بين الطرقات، والتي يكون الأهل قد قاموا بترتيب احتياجاتها مسبقًا، ثم إجراء جولة لشراء بعض الأطعمة في ركن محلات الأكل الشهير الذي يحتوي أطعمة تناسب جميع المستويات الاقتصادية، بداية من الفول والكشرى وحتى الكباب والكفتة للمقتدرين، يعقبها فرش ملاءة صغيرة على العشب ولعب الكرة بين الأطفال في بعض الأحيان.. هي نزهة لا أكثر قد يتخللها شراء بضعة كتب للأب أو الأم.. هناك الكثير من كتب الطبخ التي تروج سوقها كثيرًا في المعرض، بالمناسبة.
الحاويات تحل أزمة الحمامات
منذ عام ٢٠١٠، وبعد قرار الرئيس الأسبق حسني مبارك بهدم جميع مباني معرض الكتاب، تمهيدًا لبيع أرض المعارض لجهات استثمارية، صار «دخول الحمام»، خاصة للأطفال وكبار السن، أزمة كبيرة.. الزائر الخبير كان يواجه هذه الأزمة بالذهاب إلى القاعة الرئيسية، حيث الفعاليات الرسمية، وهو تقريبًا المبنى الوحيد الذي لم يتم هدمه، بينما كان الآلاف يُعانون كثيرًا من عدم معرفة مكان لقضاء حاجتهم.
منذ بضع سنوات، وتحديدًا في أعقاب ثورة يناير، ابتكر القائمون على المعرض حلًا مناسبًا، يتمثل في مجموعة من الحاويات التابعة لإحدى شركات جهاز الخدمة الوطنية، هي في جملتها حمامات متنقلة تستقر بجوار الصالتي ٣ و٤ لخدمة الزوار، إحداهما للرجال والأخرى للنساء.. هى حقًا مساحات ضيقة وتشهد زحامًا شديدًا، لكنها تفى بالغرض، ويقف عليها مجموعة من العمال لتنظيم الدخول والحفاظ على النظافة.
ورغم وجود هذا الحل، لا تسير الأمور بهذه البساطة دومًا، فحتى هذه الحاويات التي لا يتجاوز عددها الـ١٠ تشهد ضغطًا كبيرًا من الزوار الذي تجاوز عددهم في العام السابق ما يقرب من ٦ ملايين زائر، حسب تصريح وزير الثقافة السابق حلمي النمنم؛ ويأمل زوار المعرض هذا العام حلًا أكثر سهولة.

أرض المعارض.. "زحمة يا دنيا زحمة"
«موقف ومنادي سيارات» وطوابير طويلة.. وإجراءات أمنية صارمة.. أهلا بك في المعرض
دائمًا ما يتم تصنيف شارع ممدوح سالم وطريق الفنجري والجزء المجاور لأرض المعارض في طريق صلاح سالم بأنها المناطق الأشد ازدحامًا في مصر كلها في الأيام الأخيرة من شهر يناير والثلث الأول من شهر فبراير من كل عام.. يزيد من هذا الزحام عشرات المئات من السيارات الخاصة والناقلة للركاب المستقرة حول أرض المعارض.
كل شيء زحمة
«زحمة يا دنيا زحمة»، أغنية المطرب الشعبي الكبير أحمد عدوية، التي صارت فلكلورًا شعبيًا نتذكره مع حلول العديد من المواسم في مصر، هي شعار الأيام الخمسة عشر التي يزور فيها المعرض حياة المصريين.. لا يهم إذا ما كنت تقود سيارتك أو قادمًا عبر المواصلات أو مستندًا إلى إحدى قدميك من أجل إراحة الأخرى، في ذلك الموقف الموسمي للميكروباص الذي تنطلق سياراته لتجمع الزائرين من الميادين الكبرى (التحرير- رمسيس- العباسية)، ثم تفرغ حمولتها سريعًا لتستقبل حمولة أخرى من الخارجين من أرض المعارض حاملين عشرات الحقائب البلاستيكية والقماشية المليئة بالكتب، بينما تملأ ملامحهم الإرهاق مع أمنيات عاجلة بالوصول إلى منازلهم أو محافظاتهم سريعًا، مع غنائمهم التي تفوح منها رائحة أحبار المطابع.. الجميع يقبعون في ذلك الزحام مع قرار الذهاب وحتى لحظة الوصول إلى المنزل.
استعدادات الانتظار
أول ما يستقبل زائر المعرض طوابير الانتظار الطويلة، وهي عدة أنواع، فهناك طوابير السيارات التي تحمل تصاريح الدخول إلى أرض المعارض، والتي قد ينتظر سائقها بالساعات حتى يُسمح له بالدخول.. الزائر المتمرس الذي اعتاد المعرض، أو يزوره يوميًا، يقف في الطابور وقد جهّز سيارته بالاستعدادات اللازمة، بعض الشطائر وزجاجات العصير والمياه والمشروبات الغازية، هكذا يقضى ذلك الوقت مستمتعًا بقائمة موسيقية أعدها على كارت الذاكرة فى كاسيت السيارة، لكنه بعد ذلك يقضي وقتًا طويلًا آخر -أقصر بكثير من الانتظار بالخارج- في البحث عن مكان يوقف فيه سيارته وهو يمنى نفسه بأن يكون قريبًا من صالات العرض، المواقف الموجودة إما خلف الصالات ٢ و٣ و٤ التي تحولت منذ بضعة أعوام إلى خيام، وإما بالقرب من القاعة الرئيسية التى تحمل لافتة الصندوق الاجتماعي للتنمية.
طوابير السيارات
إذا كنت من أصحاب السيارات غير الحاملين للتصاريح، فستكتشف أن هذه الفئة تُعاني حقًا إذا لم تذهب للمعرض في ساعة باكرة للغاية، حتى يتمكن أحدهم من الانتظار بالقرب من بوابة الدخول، بعدها قد يدور ساعات أخرى في شارع ممدوح سالم والشوارع الجانبية المحيطة به حتى يجد - بصعوبة- موضعًا يوقف فيه سيارته.. في اللحظة التي يلتقط فيها أنفاسه أو قبلها بقليل سيُفاجأ بأحدهم ممن يرتدون سترة بلاستيكية لامعة -قد تكون خضراء أو برتقالية ولا بأس من كاب يقيه الشمس التي يظل تحت أشعتها طيلة اليوم- وهو يخبره أن المكان الذي عثر عليه بعد دقائق مرت كأعوام دون مساعدة، يتبع هذا الدخيل الذي يصف نفسه بأنه «منادى سيارات» هذا المكان، ويجب عليه أن يدفع له الآن، لأن «الدنيا زحمة وأنا بسلّم اللي بعدي»، على حد قوله.. قيمة الانتظار تتراوح ما بين ١٠ جنيهات و٢٠ جنيهًا، وأحيانا قد يعطيك الدخيل إيصالا لا تدري هل يتبع الحي أم يتبعه هو، بينما يتعامل الآخرون بمنطق الثقة و«خلاص يا أستاذ أنا عارف العربية وعارف شكلك».. هذه المرحلة تنتهي لتواجه عالم المعرض على قدميك.
المزيد من الطوابير
الطابور الآخر للمترجلين الذين جاءوا عبر الميكروباص وسيارات النقل الجماعي، أو من تركوا سياراتهم بالخارج كما ذكرنا.. هؤلاء إن لم يكن أحدهم يحمل تصاريح دخول دائمة، فعليهم في البداية الوقوف في طابور طويل يمتد من شباك التذاكر وحتى الرصيف -مسافة ثلاثمائة متر تقريبًا- للحصول على تذكرة.. قليلًا ما تحدث مشادات بين أعضاء الطابور لوجود إجراءات أمنية صارمة، مع العديد من ضباط وجنود الشرطة المكلفين بتأمين المعرض، بعد الانتهاء من هذا الطابور ستجد طابورًا مماثلًا أو أطول قليلًا أمام بوابة الدخول، لا بأس، عادة ما يتناسى الواقفون طول الطابور عبر الأحاديث القصيرة حول التوقعات والأمنيات والإصدارات الجديدة.. دقائق أخرى تطول أو تقصر تعقبها دقيقة للمرور عبر بوابات التأمين الإلكترونية، ثم يجد الزائر نفسه أمام أجنحة العرض المكشوف.
أهلًا بك في معرض القاهرة الدولي للكتاب.

حفلات التوقيع في المعرض "سلم وامشي"
عشرات المئات من العناوين الجديدة، إضافة إلى مئات أخرى من طبعات أشهر عناوين الأعوام السابقة تحتل أرفف الناشرين في صالات المعرض فى كل عام، تتنوع ما بين الأغلفة الجيدة والرديئة والأكثر رداءة.. لا بد خلال جولاتك بأروقة وصالات المعرض من أن تجذبك بعض الأغلفة أو العناوين.. لكن ما قد يجذبك أكثر لكتاب لا تدرى عنه شيئًا هو اصطفاف عشرات الزوار أمام جناح واحدة من دور النشر في طابور طويل حاملين نسخة منه، وعندما يجذبك فضولك للسؤال تكون الإجابة واحدة: «حفل توقيع».
حفلات توقيع الكتب، من أهم أساليب الترويج التي ابتكرتها أكبر دور النشر والمكتبات في العالم، بدعوى أن حفل التوقيع يساهم في تقريب المسافة بين القارئ والكاتب.
من أوروبا إلى العالم العربي
بدأت ظاهرة حفل التوقيع في أوروبا، ثم انطلقت إلى العالم العربي عبر مصر، وبدأت مع كبار الكتاب الذين صاروا يحرصون على إقامة هذه الحفلات لإصداراتهم الجديدة؛ هناك تدور المناقشات بين القارئ وكاتبه المُفضل حول تفاصيل تجربته الحياتية ومرجعيته التى استند إليها في تكوين أفكاره وإصدار آرائه؛ إضافة إلى معرفة وجهة نظر هذا الكاتب في أمور وقضايا حياتية أخرى بعيدة عن موضوع الكتاب؛ وتكرست هذه الظاهرة كتقليد أدبي يرتبط بالكتب فور إصدارها، في ظل غياب معايير واضحة تنظم وتضبط هذه الحفلات، ما جعل الكثير من المؤلفين العرب يقومون بتنظيم حفلات لتوقيع كتبهم بجهد فردى، ليتحول الأمر من حفل توقيع إلى حفل تدشين.
ويرتبط انخفاض وارتفاع أرقام المبيعات في حفلات التوقيع بشروط إقامتها، وليس فقط بشهرة الكاتب أو أهمية الكتاب، فالمكان والزمان شرطان مهمان في إقامة حفلات التوقيع.
ليست مثالية
لا تنطبق هذه المعايير بشكل كامل في معرض القاهرة الدولي للكتاب، فمع تعدد العناوين والعدد الكبير لحفلات التوقيع في التوقيت نفسه تتحول أغلب هذه الحفلات إلى لقاء لا يتعدى دقائق بين الكاتب والقارئ، يكتفي فيه القارئ بكلمة «مبروك» بينما يرد الكاتب بابتسامة عريضة تثبت على ملامحه مع عدد القراء الكبير -إذا ما كان الكاتب معروفًا- وهو يكتفي بسؤال القارئ عن الاسم الذي سيوقع له؛ بينما أكثرية الكتاب من الشباب تقتصر حفلاتهم على مجموعة من الأصدقاء المتعجلين الذين يريدون إنهاء هذه المجاملة سريعًا قبل أن يتوجهوا لمجاملة أخرى لكاتب آخر من الأصدقاء؛ عندها يتحول حفل التوقيع إلى «مبروك يا حبيبي عقبال الكتاب الألف».
في أوروبا يقف الناس في طوابير طويلة حتى يشترون كتابًا يحمل توقيع المؤلف، وعادة تباع هذه الكتب بأسعار أعلى من سعرها العادي في مكتبات السوق بهدف التشجيع والدعم، وعادة يكون وقت التوقيع والبيع وعدد النسخ محددًا، ليكون للتوقيع قيمة وأهمية فى ذهنية القارئ، أما في معرض القاهرة وغيره من المعارض العربية، فإضافة إلى خجل الكاتب من بيع كتبه بنفسه والإحراج الذي يتعرض له عندما يوقع كتابه لأصدقائه أو معارفه، فإن رفع سعر الكتاب يعد جريمة لا تغتفر.
استجداء أم ضرورة؟
طيلة الأعوام السابقة انقسمت آراء الكتاب والقراء والناشرين حول ظاهرة حفلات التوقيع، فمنهم من يراها عملية ضرورية لتسويق الكاتب والكتاب ومد جسور المعرفة والتقارب بين القارئ وكاتبه المفضل، بحيث يتعرف إليه عن قرب، واعتبار التوقيع مقياسًا على إقبال الناس على القراءة واهتمامهم بالكتب وتفاعلهم معها، وكذلك اعتبار هذه الحفلات نشاطًا يدفع الحراك الثقافي إلى وجهة جديدة؛ بينما يرى آخرون أن هذه الحفلات تشبه نوعًا من الاستجداء والتكسب، وليست ظاهرة ثقافية بقدر ما هي ثقافة المظاهر ليس إلا.

"بسبعة ونص" سور الأزبكية لازم تزوره
في بداية القرن العشرين كان باعة الكتب يتجولون ببضاعتهم التي تهم فئة ليست بالقليلة على رواد المقاهي في وسط القاهرة، في ذلك الوقت كان التعب يبلغ أشده مع اقتراب أفول الشمس، فكان هؤلاء الباعة يتخذون من حديقة الأزبكية، التي أنشأها الخديو إسماعيل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مكانًا للتجمع والراحة وتبادل الكتب وتنظيم العمل بهذا السوق الذي كان رائجًا بشكل ما.. من هنا جاءت فكرة «سوق الأزبكية»، التي تحولت فيما بعد إلى سور الأزبكية الشهير.
مع تدفق الباعة على الحديقة بدأت معرفة القارئ المصري بمكان تجمع باعة الكتب في ذلك المكان، فأصبح مقصدًا ثابتًا لشراء وبيع الكتب القديمة والنادرة بأثمان زهيدة، إلى أن وافقت الحكومة المصرية في أربعينيات القرن الماضي على منح تجار الكتب تراخيص، وكانت هذه الموافقة بمثابة نواة شرعية لاستمرار نشاط سور الأزبكية حتى الآن، لذلك ينظر الكثير من المثقفين إلى سور الأزبكية بوصفه حالة ثقافية وتاريخية نادرة، أسهمت في تعزيز الوعى الثقافي في داخل نسيج المجتمع لفترة تجاوزت أكثر من مائة عام الآن.
خلف المقهي الثقافي
«أي حاجة بجنيه.. الكتاب بسبعة ونص.. أي كتاب بعشرة وبخمستاشر.. تعالى الـ٣ كتب بعشرين».
اعتاد المارة في سور الأزبكية بمعرض الكتاب، والواقع خلف سراي المقهى الثقافي، سماع نداء باعة السور الذين يتخذون من النداء عبر مكبرات الصوت وسيلة لترويج بضائعهم، وتشير التوقعات إلى أن سور الأزبكية هو «الحصان الأسود» الرابح لهذا العام، وأنه سيكون من أكثر الأجنحة بيعًا للكتب في المعرض، أمام الإحجام عن الشراء من الأجنحة العادية.
الأسعار الرخيصة والكتب النادرة هى شعار الأعمال الأكثر مبيعًا في جناح سور الأزبكية، وربما في المعرض كله.
«تدخل فاضي تطلع بكتب»
أن شعار «تدخل الجناح فاضي وتخرج منه تلاقي نفسك شايل شنطة كتب» الذي يرفعه باعة سور الأزبكية لزوارهم، هو المسيطر حقًا مهما امتدت الأحاديث عن حقوق النشر أو زادت حملات الشرطة. ربما كان الحد من ذلك جائزًا في المعرض، لكن سور الأزبكية الحقيقي لا يعبأ بتلك الحقوق.

"الثقافة ومكتبة الأسرة" أمهات الكتب ببلاش
ليس في سور الأزبكية وحده تجد الكتب الرخيصة، هناك أماكن أخرى لن تصدق وجود هذه الأعمال بها أو أن هناك من قام بإصدار مجموعة كبيرة من المترجمات بالعربية بأسعار فى متناول القارئ وفى الوقت نفسه ليست نسخًا بالية أو قديمة، ربما لقلة الدعاية لم يعد أحد يلتفت إلى الكنوز المخبأة فى العديد من سلاسل الإصدارات الحكومية.
قصور الثقافة
لا يعرف الكثيرون الآن، على سبيل المثال، أن رائعة الإيطالى بوكاتشيو «ديكاميرون» موجودة ضمن واحدة من إصدارات هيئة قصور الثقافة وتباع فى جزئين لا يتعدى ثمنهما ٢٠ جنيهًا.. هذا العمل الرائع وغيره بالقرب من القارئ، لكنه قد لا يلتفت نحوهم وسط الزخم والكثير من الإعلانات المتطايرة فى أيدى المتطوعين من الشباب والكثير من بوسترات الروايات الصادرة عن دور النشر الخاصة، والتى يلهث أغلبها سعيًا نحو قائمة الأكثر مبيعًا.
وفي السنوات الأخيرة حدثت طفرة كبيرة بمشروع النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة؛ فصدرت عنها ترجمة إحدى درر القرن العشرين الروائية، بل إحدى الروائع النادرة للإبداع الروائى على مر العصور، وهى رواية «مائة عام من العزلة» للكولومبى جابرييل جارسيا ماركيث، التي ترجمها للعربية صالح علمانى، لسلسلة «آفاق عالمية».. كذلك هناك سلسلة «ذاكرة الكتابة»، التي صدر عنها كتاب «الثابت والمتحول» للشاعر السوري الكبير أدونيس، في أربعة أجزاء، والذي أحدث منذ صدوره في ١٩٧٣، سجالًا أدبيًا وفكريًا بين فئة تقر أطروحاته وتأخذ بها، وأخرى تعارضها وتختلف معها، ويعد من المحطات المهمة في تاريخ النقد الأدبي والفكرى والتاريخي.
أما سلسلة «إصدارات خاصة» فصدر عنها مثلًا كتاب «مذكرات عبد القادر حاتم.. رئيس حكومة حرب أكتوبر» الذي يعتبر البعض أنه أبو الإعلام المصري والعربي؛ وكتاب «التفضيل الجمالي» من تأليف الدكتور شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق، وهو محاولة للإلمام بالجهود السيكولوجية المختلفة التي حاولت وصف الجمال، أو حاولت فهمه وتفسيره أو الاقتراب منه بطرائق متنوعة، خصوصًا في بعض تجلياته الفنية والبينية.
وضمن سلسلة الذخائر صدر كتاب «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي من تحقيق الأب لويس شيخو، وهو أول كتاب عن شخصانيات الأمم والشعوب، ما يضعه موضع الريادة في حقل الأنثربولجيا الثقافية، وتجاوز فيه التعريف بالأصول العرقية والأنساب إلى نهج جديد قوامه ومعياره درجة الإسهام في تطوير العلوم والمعارف، وفق رؤية إنسانية وموضوعية غير متعصبة.
وإذا كان الزائر من المتخصصين فسيمكنه بشكل كبير العثور على ما يُفيده، فمن إصدارات الهيئة سلسلة الدراسات الشعبية، التي تُعنى بنشر الدراسات المتعلقة بالفولكلور ونصوص وسير وحكايات وملاحم الأدب الشعبي؛ وكذلك هناك سلسلة الفلسفة.
مكتبة الأسرة
لا أحد يغفل أن المشروع العملاق قدم عبر سنوات طويلة من انطلاقه آلافًا من الكتب المهمة، بأسعار تُمكّن القارئ من الاستزادة دومًا، مهما كان مستواه المادى أو الاجتماعى، فأغلب أسعار الكتب الصادرة عن المشروع التابع للهيئة العامة للكتاب، تتراوح من ٥ إلى ٥٠ جنيهًا. هكذا يُمكن للزائر- مهما اختلف ذوقه- أن يخرج بالعديد من الإصدارات من أجنحة المكتبة المنتشرة في المعرض، سواء في منطقة العرض المكشوف أو في بعض الصالات.
قدمت مكتبة الأسرة للشباب والمواطنين روائع الأدب العربي من إبداع عمالقة الأدب، من أمثال توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، يوسف السباعي، يحيى حقي، إحسان عبدالقدوس، محمود تيمور، فريد أبوحديد، محمد حسين هيكل، يوسف إدريس، وغيرهم.. ولقد تطورت فقدمت فيما بعد إبداعات جيل الستينيات والسبعينيات، بأقلام أشهر الكتاب أمثال جمال الغيطاني، بهاء طاهر، فتحي غانم، محمد مستجاب.. وهناك سلسلة الأعمال الفكرية التى ضمت عددًا من الأعمال المستنيرة، ودارت موضوعاتها حول الدين الإسلامى والسيرة النبوية العطرة، وكذلك التواصل بين الإسلام والمسيحية، وضمت الكتب التي تناولت سيرة النبي الكريم بأقلام طه حسين، ومحمد حسين هيكل، وتوفيق الحكيم، والعقاد، وبنت الشاطئ.. وقد تطورت السلسلة فيما بعد، فتناولت نظريات الفكر المصري المعاصرة ومستقبل الثقافة العربية، وتاريخ الأدب المعاصر، وآفاق المستقبل المصري في مختلف المعارف والعلوم والفنون والآداب، بأقلام كبار المفكرين والمؤرخين والنقاد المصريين.
وهناك كذلك سلسلة التراث التي تعرض للقارئ بأقلام كبار الكتاب والمفكرين والعلماء أهم الكتب التي شكلت مسيرة الإنسانية الفكرية والحضارية، في الشرق والغرب على السواء، وأيضا سلسلة روائع الأدب العالمي للناشئين التي تقدم أهم الأعمال التي تعتبر عيون الأدب العالمي وتمثل نماذج لمدارسه المختلفة، الكلاسيكية والرومانسية الحديثة.. إلى جوار هذا هناك سلسلة المصريات التي تناولت الأعمال المهتمة بالحضارة المصرية القديمة وربطها بالوقت الراهن، وقد صدر في هذه السلسلة أهم الأعمال في المصريات مثل «فجر الضمير، أهرام مصر، المصريون والحضارة، كنوز الفراعنة، تاريخ مصر من أقدم العصور، المرأة الفرعونية، النيل حياة نهر، معجم الحضارة المصرية، الحياة اليومية فى مصر القديمة، آثار حضارة الفراعنة»، وهناك نصيب لمصر الحديثة، فتناولت السلسلة تطور مصر في فجر الإسلام مرورًا بتاريخ نهضة مصر الحديثة منذ ولاية محمد على، ثم تاريخ الثورات كالثورة العرابية، وتاريخ نضال مصطفى كامل، وصلاح الدين الأيوبي، وتاريخ فتح العرب لمصر، ودراسات حول الشخصية المصرية في تاريخ مصر الحديث.

ندوات وأمسيات "وشيشة" "المقهى الثقافي" محاولة استعادة الدور القديم
يأتي المقهى الثقافي كفعالية بارزة كل عام تشهدها دورات معرض القاهرة الدولي للكتاب، جاءت امتدادًا للدور الذي كانت تلعبه المقاهى الثقافية قبيل تنظيم المعرض من جانب الدولة؛ ففي مطلع القرن العشرين في حي الحلمية كان هناك مقهى يرتاده أمير الشعراء أحمد شوقي وشاعر النيل حافظ إبراهيم، وزكي مبارك وحسين الهراوي، ومحجوب ثابت، وكانت ندواتهم حافلة بالنقد والفكاهة.
في العقود التالية شهد مقهى «ريش» الشهير في ميدان طلعت حرب ما أطلق عليه البعض «عصر الأدباء الصعاليك»، الذي كان في مقدمتهم الشاعر الراحل نجيب سرور الذي كان ينفق راتبه الشهري في يومين، وكان يوسف إدريس أحد رواد هذا المقهى مع القاص يحيى الطاهر عبدالله والشاعر أمل دنقل، وكثير من الشعراء والأدباء الشبان الذين طالما رافقوا أمل دنقل وجالسوه؛ وبالطبع لا أحد ينسى «شلة الحرافيش» التي كانت تلتف حول الأديب العالمي الراحل نجيب محفوظ.
كان للمقهى دور كبير في حركة الثقافة في مصر، خصوصًا في الستينيات، تعادل حركة الثقافة في العشرينيات والثلاثينيات وما بعدها، وكان المقهى يعد نافذة ثقافية تعكس كل الاتجاهات والتيارات؛ لكن هذا الدور الثقافي للمقهى غاب بعد انحسار مستمر شهدته الثقافة المصرية، فلم يعد المقهى إلا مكانًا للثرثرة ومجالس النميمة، وقد هجره المثقفون الحقيقيون وفضلوا الجلوس في بيوتهم بعيدًا.
الجمهور يتوقف أمام اللامعين
منذ انطلاقه في معرض الكتاب، يحاول المقهى الثقافي عبر ندواته والمشاركون فيها استعادة ذلك الدور المفقود، عبر الفعاليات اليومية التي تتنوع ما بين الندوات والمناقشات والأمسيات الشعرية.. يُجهز القائمون على المقهى في كل عام برنامجًا حافلًا يشمل العديد من الأسماء؛ لكن الزائر في أروقة المعرض قد لا يتوقف في أثناء مروره على اللافتة الموجودة أمام خيمة المقهى إلا إذا استوقفه واحد من أصحاب الأسماء اللامعة التي يقرأ عنها في الصحف أو الإعلام الإلكتروني، فيما يمر أغلب رواد المعرض مرورًا عابرًا.
عند دخولك المقهى الثقافي بالصدفة قد تفاجأ بالكثير من الشخصيات الشهيرة في عالم الأدب، أو تجد اسمًا فنيًا لامعًا يقوم بإلقاء أشعار لراحل عظيم مثل أمل دنقل أو صلاح جاهين أو غيرهما.. وبنظرة سريعة على الجمهور الموجود ستجد الجالسين في الصفوف الأولى من المهتمين فعلًا والمنصتين إلى الجالسين على المنصة يشاركونهم النقاشات في حماس وحفاوة حقيقية، بينما الصفوف التالية تجد أغلبها قد جاء مجاملة لواحد من الجالسين على المنصة، فبعضهم ينشغل بأحاديثه الجانبية، وآخرين لا ينفكون يعبثون في هواتفهم المحمولة؛ بينما الصفوف الأخيرة خالية أو يجلس على مقاعدها البعض ممن يحملون عشرات الأكياس البلاستيكية أو القماشية المليئة بالكتب التي اشتروها من أجنحة المعرض المختلفة أو سور الأزبكية، هم لا يأبهون بالندوة المنعقدة أو كلمات المتحدثين أو الأشعار التي يلقيها بعض الحضور مهما بلغت أهميتهم، بل يجلسون من أجل إراحة أقدامهم لا أكثر بعد ساعات من الوقوف والتجول في جنبات المعرض.
المقهى الحقيقي ستجده في الخيمة المجاورة لخيمة المقهى الثقافي، هناك المشروبات الساخنة والباردة وأحجار الشيشة وبعض الأطعمة التي تتفق مع ذوقك أو تخالفه. احذر من الأسعار لأنها في الغالب لا تناسب الطبقة المتوسطة أو محدودي الدخل، لكن إذا دخلت إلى المقهى ستجد الأدباء الكبار والكثير من الشباب ممن يجلسون مع ذويهم، أو ضيوفهم من الشخصيات الأدبية في العالم العربي، أو بعض المؤلفين الأجانب..  هي فرصة جيدة لالتقاط «السيلفي» مع هؤلاء، فلا تضيعها.