الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

عندما تتحول السعادة إلى مشكلة ثقافية.. جوردان بيترسون نموذجًا

جوردان بيترسون
جوردان بيترسون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذ تثير كلمة "السعادة" جدلا بين المثقفين في الشرق والغرب حول معانيها ومفاهيمها فإنها تتحول إلى مشكلة ثقافية بامتياز كما يتجلى في حالة أحد المثقفين البارزين في الغرب وهو الأكاديمي والكاتب الكندي جوردان بيترسون.
فبيترسون الذي يثير الآن جدلا ثقافيا في الغرب يقول إن "البحث عن السعادة هدف لا معنى له" ويضيف صاحب الكتاب الجديد "12 قاعدة للحياة" الذي اهتمت به الصحافة الثقافية الغربية إن "الحياة مأساوية".
ورغم اللغة المتشائمة والمفردات الصادمة التي يستخدمها جوردان بيترسون فإن ملايين البشر في الغرب يحرصون على متابعة محاضراته التي تبث مباشرة على شبكة الإنترنت ومن الطبيعي في ظل شعبيته الطاغية وتأثيره الثقافي الواضح على رجل الشارع في الغرب أن تهتم الصحف ووسائل الإعلام بآرائه فيما التقته مؤخرا جريدة الأوبزرفر البريطانية.
والبروفيسور الكندي جوردان بيترسون الذي ولد في الثاني عشر من يونيو عام 1962 متخصص في "علم النفس الاكلينيكي" ومنهمك دوما فيما يصفه تيم لوت في جريدة الأوبزرفر "بسبر الأغوار العميقة للنفس الإنسانية ورصد عللها واضطراباتها " بينما يعتبره بعض المثقفين في الغرب "أهم مفكر كندي منذ مارشال ماكلوهان صاحب النظريات الهامة في الاتصال الجماهيري والذي قضى في نهاية عام 1980.
وعلى مواقع "يوتيوب" بالانترنت تجاوز عدد مشاهدات بيترسون الذي يعمل كأستاذ لعلم النفس بجامعة تورونتو الـ 35 مليون مشاهدة فيما يتبنى "هذا الأكاديمي صاحب القدرات الفذة في السرد والحكي" توجهات تختلف عن توجهات العديد من الأكاديميين الكنديين الأقرب للنزعة اليسارية بل إنه يتهم من يصفهم "بالماركسيين الجدد وما بعد الحداثيين بإفساد أقسام الدراسات الإنسانية والأدبية في جامعات الغرب".
ومن الآراء الصادمة لجوردان بيترسون أن "كل البشر لديهم قابلية التحول إلى وحوش" ومادامت الحياة كارثية فمن العبث أن يكون الهدف هو البحث عن السعادة،، غير أنه يحاول عبر محاضراته وكتبه الرائجة التي تدخل في نطاق ما يعرف بكتب المساعدة الذاتية تقديم "وصفة تساعد الإنسان المعاصر على الحياة في عالم لا يمكن وصفه بأنه سعيد".
وإذا كانت "السعادة صعبة المنال للإنسان المعاصر فبوسع هذا الإنسان على أي حال إن يكون أفضل حالا لو تجنب مقارنة نفسه بالآخرين وعمد بدلا من ذلك لمقارنات بين الحاضر والماضي" كما يقول جوردان بيترسون أو ذلك "الأكاديمي الذي بات ينافس نجوم موسيقى الروك على مواقع اليوتيوب".
وكتابه الجديد "12 قاعدة للحياة:ترياق مضاد للفوضى" يدخل ضمن محاولات هذا العالم النفسي لمساعدة الإنسان المعاصر على الحياة بأساس أخلاقي في عالم صعب من وجهة نظره وهو كمثقف يبحر عبر النصوص المقدسة وكتابات فلاسفة ومفكرين وعلماء نفس وأدباء مثل نيتشة وفرويد وكارل يونج ودوستويفسكي.
وجوردان بيترسون الأقرب لليبرالية الكلاسيكية و"نجم محاضرات الأون لاين" والذي درس علوم السياسة قبل التحول لعلم النفس يرى أن "اليسار المتشدد يهدد اولانية الفرد كقيمة جوهرية تشكل أساس الثقافة الغربية" معتبرا ان "ايديولوجيات وفلسفات كالماركسية والفاشية والعدمية أفضت بالإنسانية لكوارث مأساوية" وبالتالي فهي لا يمكن أن تكون "وصفة للسعادة".
وإذ تصدر من حين لآخر تقارير ودراسات عن السعادة مثل "التقرير العالمي للسعادة" عن شبكة حلول التنمية المستدامة وهي مبادرة أطلقتها الأمم المتحدة عام 2012 فان "السعادة" كمفهوم فلسفي وتعبير ثقافي قد تختلف عن المعايير الكمية الواضحة في مثل هذا التقرير بمؤشراته الرقمية كما أن الأمر قد "يصعب قياسه كميا" لأنه يتجاوز في تفاصيل وتعقيدات الواقع الإنساني مسألة الرخاء المادي التي بدت موضع اهتمام في هذا التقرير حتى مع التسليم بأهمية مثل هذه المسألة.
وعلى سبيل المثال ترى مثقفة نيجيرية تحظى كتاباتها باهتمام في الغرب وهي القاصة الشابة ايوبامي اديبايو صاحبة القصة الجديدة "ابق معي" إن السعادة قرار شخصي فيما تقول:"ينبغي ان نقرر بأنفسنا ولأنفسنا ما الذي تعنيه السعادة".
وبعض الكتب التي تستهدف رجل الشارع في الغرب وتداعب حلمه الإنساني في "البحث عن السعادة" تتناول مسائل مثل سبل التأثير في الآخرين وكسب الأصدقاء غير أن عالم النفس الكندي المثير للجدل جوردان بيترسون ينتهج رغم شعبيته لدى رجل الشارع الغربي نهجا مختلفا عن هذه الكتب التي ينظر لها المثقفون بوصفها "سطحية وذات نزعة تجارية تستهدف الربح لمؤلفيها".
ورغم النزعة المتشائمة لجوردان بيترسون فيما يتعلق بإمكانية تحقيق السعادة للإنسان المعاصر فانه يرى ان على هذا الانسان ان يكون شجاعا في مجابهة الواقع القاسي وان "يستحضر عالمه الخاص ويجتهد لصنع تفاصيله على ارض الواقع".
وبيترسون الذي اصدر من قبل كتابا بعنوان:"خرائط المعنى" يولي أهمية واضحة في قضايا السعادة لمسائل متصلة بالمعتقدات والأساطير و"الدوافع والنزعات والنبضات القاتمة لدى البشر" كما يؤكد على أهمية "فهم سبل تطور العالم" لهؤلاء الذين يبحثون عن سبل انقاذ البشرية من شرور جمة.
ويحذر جوردان بيترسون من خطورة "تكييف التصورات حسب الأغراض والأهواء التي كثيرا ما تكون سيئة وشريرة" معتبرا أن "هناك من البشر من يكرهون هؤلاء الأفضل منهم ولا يترددون في محاولة تدميرهم تحت لافتات متنوعة ومموهة بكلمات خيرة".
ويضيف:على الإنسان المعاصر "البحث عن معان أفضل في الواقع بدلا من مطاردة سراب السعادة" وهو وإن كان لا ينكر على الإنسان حقه في البحث عن السعادة يؤكد أن المشكلة تكمن في أن "السعادة مفهوم مراوغ ولا يمكن الإمساك بجوهرها وبالتالي فلا يمكن أن تكون غاية إنسانية".
و"السعادة " موضع بحث أحيانا من مثقفين مصريين وعرب مع تركيز مطلوب على انعكاسات الثورة المعرفية والتقدم التقني وما يعرف "بأزمة المعنى" في ظل ثورات معرفية وتقسيم مفرط للعمل أدى تدريجيا إلى انكماش قدرة الإنسان على التحكم في عالمه ومن ثم شعوره بالقلق النفسي".
ويوضح الكاتب المصري صلاح سالم أن أحد المظاهر الفجة لهذا الشعور بالقلق النفسي يتمثل في البحث عن الثراء بوهم أن المال يصلح بديلا للأمن النفسي "وهنا ينمو مايطلق عليه في علم الاجتماع الغربي ازمة المعنى" وهي ازمة وجودية وتعني شعور الانسان بالتعاسة والضياع رغم حصوله على مستويات معيشية لم تتحقق في اي مجتمع انساني من قبل.
ويقول الأكاديمي والكاتب الكويتي الدكتور عادل سالم العبد الجادر:"الفرح والسعادة والسرور والغبطة والأمل والابتسامة والضحك والهناء ومفردات كثيرة في قواميس اللغة العربية تبعث على التفاؤل اختلطت علينا ثم صعب على من بعدنا أن يعرفها فضاعت معانيها ومع ضياع المعنى ضاع المفهوم فلا نكاد نعرفها إلا بنقائصها:الحزن والتعاسة والكآبة والألم واليأس والعبوس والبكاء والكمد".

وواقع الحال أن هذا المثقف الكويتي ورئيس تحرير "مجلة العربي" يثير قضية هامة فالاكتئاب بتلاوينه المتعددة والقاتمة يكبد العالم خسائر بالمليارات وضحايا الاكتئاب يزيد عددهم في العالم على 450 مليون نسمة بحسب تقديرات لمنظمة الصحة العالمية.
إذ يعتبر جيفري ساكس مدير شبكة حلول التنمية المستدامة أن "الدول السعيدة هي التي يوجد بها توازن صحي بين الرخاء وفقا لمقاييسه التقليدية ورأس المال الاجتماعي مما يعني درجة عالية من الثقة في المجتمع" يرى جوردان بيترسون أن "العمل البناء والصحيح هو المهم والبطولة الحقيقية هي أن يولد الإنسان مجددا من قلب المعاناة في عالم قاس".
ويدعو جيفري ساكس "لقياس السعادة" وفهم أسباب التراجع بينما استند تقرير شبكة حلول التنمية المستدامة في ترتيب الدول من حيث السعادة لعوامل مثل نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر.
غير أن ايوبامي اديبايو التي درست الكتابة الابداعية تبدي آراء حول السعادة تختلف تماما مع المقاييس الكمية كما تختلف مثلا مع هؤلاء الذين يرون سواء في بلدها نيجيريا أو في بلدان ذات ثقافات أخرى إن "الزواج السعيد لابد وأن يقترن بإنجاب أطفال".
وتقول القاصة النيجيرية المعروفة في الغرب:"هذه أفكار خطرة..فالبشر هم البشر وهم يستحقون الاحترام بصرف النظر عن مسألة مثل إنجاب الأطفال" موضحة أن قصتها "إبق معي" تتعلق بهذا الموضوع وإمكانية أن يعيش الزوجان "بسعادة حتى لو كتب عليهما عدم وجود أطفال".
كما أن مسألة الثراء المادي لا تعني دوما "السعادة" كما تؤكد هذه المثقفة الأفريقية المحلقة بأجنحة الإبداع في سماء الثقافة العالمية "فأن تكون غنيا لايعني بالضرورة ان تكون سعيدا".
وإذا كان الآباء الثقافيين للمجتمع الأمريكى قد أكدوا في دستور الولايات المتحدة حق المواطن الأمريكى فى "السعادة" فواقع الحال أن العديد من المفكرين و"الآباء الثقافيين المصريين" ركزوا على أهمية التفاؤل والأمل وحق المصرى فى "السعادة"، ومنذ عشرينيات القرن التاسع عشر تحدث أحد آباء الثقافة المصرية الحديثة وهو رفاعة الطهطاوى عن مصر التى يتمناها "كبيت لسعادة كل المصريين نبنيها بالحرية والعلم والمصنع".
وإذا كان هناك من يتحدث اليوم باستهجان عن "ثقافة الموبايل" معتبرا أن هذا التطور التقني في قلب ثورة الاتصالات أفضى لمزيد من الشعور الإنساني بالغربة وتآكل السعادة الحقة حتى أمسى "الإنسان هو المحمول والموبايل هو حامله" فإن هذا الاستهجان يثير إشكالية "التقنية والسعادة".
و الفيلسوف الألماني الكبير مارتن هيدجر أحد من اهتموا في الغرب بالعلاقة بين التكنولوجيا والسعادة فيما اعتبر أن مستحدثات التقنية أفضت في الواقع لتأثير سلبي على سعادة الكائن الإنساني بعد أن باتت "التكنولوجيا غاية في حد ذاتها وحولت إرادة الإنسان إلى وسيلة " مع أن المطلوب هو العكس!.
ومارتن هيدجر الذي قضى عام 1976 وكانت مشكلات الوجود والتقنية والحرية والحقيقة في صميم اهتماماته الفلسفية يرى أن الانبهار بالتكنولوجيا لن يحقق السعادة للكائن الإنساني مشيرا إلى أن الإنسان المعاصر أضحى خاضعا للهيمنة التكنولوجية بصورة يصفها "باذعان".
والطريف أن الكاتب الفرنسي مارسيل بروست الذي ولد في العاشر من يوليو عام 1871 وقضى في الثامن عشر من نوفمبر عام 1922 وترك للإنسانية روايته الكبرى "البحث عن الزمن المفقود" كان يعتبر أن "السعادة مفيدة للجسد غير أن الأسى هو الكفيل بتنمية قدرات العقل الإنساني".
ومن الطريف أيضا استخدام مصطلح مثل "ثمن السعادة" فى سياق الجدل الذى دار بين النخب الثقافية والسياسية الأمريكية بحثا عن الحل الأمثل للخروج من دوامة الأزمة المالية-الاقتصادية والتعامل بصورة افضل مع تحديات السوق وحقائق ثورة المعلومات.
وفي المقابل- كما يقول صلاح سالم- فإن العجز عن الإشباع المادي قد يكون سببا للتأزم الوجودي وغياب الابتسامة عن الوجوه أما الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويده فقد لاحظ انه في بعض الأحوال يلجأ الإنسان إلى بعض الحيل الساذجة:"أن يشتري شيئا كان يوما مصدر سعادة له..ويجد الشيء ولا يجد السعادة" !.
إنها محنة الإنسان المعاصر الذي قد ينتسب إلى ما ينفيه بوهم البحث عن السعادة التي يرى الكندي جوردان بيترسون إنها سراب!..ويبدو أن الجدل سيستمر طويلا بين المثقفين في الغرب والشرق حول "السعادة" كحلم إنساني تعانده الأحزان وأشلاء الأحلام!.