السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الضاحك الباكي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ذات يومٍ - من صيف سنة ١٩١٦ – خطرت للفنان الجميل فكرة جديدة، فى وقتٍ حلَّ به الإرهاق بِسبب جُهوده المُستميتة، وانتابه فيه إحساسٌ مريرٌ بالخيبة لِإعراض الجُمهور عنه. وكانت هذه الفكرة هى شخصيَّة «كشكش بك». وقد تضاربت الآراء فى تفسير نشأة هذه الشخصيَّة. واسم «كشكش» - كما قالت روز اليُوسُف - هو اسمُ التدليل الذى كانت تُنادى به هذا الفنان صديقته الفرنسيَّة «لوسى دى فريزني».
أمَّا الفنان نفسه فقال إنَّهُ ابتكر شخصيَّة كشكش من خِلال تجارُبه مع عُمد الريف، فكثيرًا ما كان يلتقى بهم فى أثناء عمله بالبنك الزراعي، عندما كانوا يترددون عليه لِلحُصول على قُروض، بعد فقدهم أموالهم أو تعرضهم للاحتيال فى المدينة، على أن تُسدد القُروض بعد عودتهم إلى قُراهم أو تُقيَّد كدينٍ يُخصم من ثمن محصول السنة التالية. فخطر بباله أن يبتكر عُمدةً عجوز شهواني، محبوب لِطيبته وسذاجته ومرحه وشغفه بالحياة، يرتدى الجبَّة والقفطان والعمامة، وفد حديثًا من الريف إلى القاهرة وبجُعبته الكثير من المال، فالتفَّ حوله فريقٌ من الحِسان أضعن ماله، وتركنه مُفلسًا، فيعود إلى قريته يعض بنان الندم، ويُقسم أغلظ الأيمان بأن يعود إلى رُشده، وألَّا يعود إلى ارتكاب ما فعل. فهو إنسانٌ فيه براءة الريفيين وخفَّتهم الفطريَّة، وعلى الرغم من مكره ودهائه إلَّا أنَّهُ بريءٌ من زيف المدينة وخداعها ونفاقها.
هو نجيب إلياس ريحانة الشهير باسم نجيب الريحانى (٢١ يناير) ١٨٨٩، أحد أبرز رُوَّاد المسرح والسينما فى الوطن العربى عُمومًا ومصر خُصوصًا، ومن أشهر الكوميديين فى تاريخ الفُنون المرئيَّة العربيَّة.
تقول عنه الموسوعة الحرة إنه وُلد فى حى باب الشعريَّة بِمدينة القاهرة فى زمن الخديويَّة، لِأبٍ عراقيٍّ كلدانيّ يُدعى «إلياس ريحانة»، كان يعمل بِتجارة الخيل، فاستقر به الحال فى القاهرة لِيتزوَّج امرأةً مصريَّة قبطيَّة أنجب منها ثلاثة أبناء منهم نجيب. تلقَّى الريحانى تعليمه فى مدرسة الفرى الفرنسيَّة بالقاهرة، وفيها تجلَّت موهبته التمثيليَّة المُبكرة، فانضمَّ إلى فريق التمثيل المدرسيّ، واشتهر بين مُعلميه بقُدرته على إلقاء الشعر العربي، حيثُ كان من أشد المُعجبين بالمُتنبى وأبوالعلاء المعرِّي، كما أحب الأعمال الأدبيَّة والمسرحيَّة الفرنسيَّة. بعد إتمامه دراسته، عمل مُوظفًا بسيطًا فى شركةٍ لِإنتاج السُكَّر فى صعيد مصر، وكان لِتجربته هذه أثرٌ على العديد من مسرحياته وأفلامه السينمائيَّة لاحقًا، وعاش لِفترةٍ مُتنقلًا بين القاهرة والصعيد. وفى أواخر العقد الثانى من القرن العشرين الميلاديّ أسس مع صديق عُمره بديع خيرى فرقةً مسرحيَّة عملت على نقل الكثير من المسرحيَّات الكوميديَّة الفرنسيَّة إلى اللُغة العربيَّة، وعُرضت على مُختلف المسارح فى مصر وأرجاء واسعة من الوطن العربي، قبل أن يُحوَّل قسمٌ منها إلى أفلامٍ سينمائيَّة مع بداية الإنتاج السينمائى فى مصر.
تزوَّج الريحانى امرأةً لُبنانية تُدعى بديعة مصابنى تعرَّف إليها أثناء أحد عُروضه فى لُبنان، واصطحبها معهُ إلى مصر حيثُ افتتحت ملهىً خاصًا بها اشتهر باسم «كازينو بديعة»، كما أسست فرقتها المسرحيَّة الخاصَّة كذلك التى عُرفت باسم «فرقة بديعة مصابني» والتى اكتشفت العديد من المواهب التمثيليَّة فى مصر. انفصل الريحانى عن بديعة مصابنى فى وقتٍ لاحق، ليتزوَّج بامرأةٍ ألمانيَّة هى «لوسى دى فرناي» وأنجب منها ابنته الوحيدة.
ترك نجيب الريحانى بصمةً كبيرةً على المسرح العربى والسينما العربيَّة، حتَّى لُقِّب بِـ«زعيم المسرح الفُكاهي» فى مصر وسائر الوطن العربي، ويرجع إليه الفضل فى تطوير المسرح والفن الكوميدى فى مصر، وربطه بالواقع والحياة اليوميَّة فى البلاد بعد أن كان قبلًا شديد التقليد للمسارح الأوروپيَّة، ويُعرف عنه قوله «عايزين مسرح مصري، مسرح ابن بلد، فيه ريحة «الطعميَّة» و«المُلوخيَّة»، مش ريحة «البطاطس المسلوقة» و«البُفتيك»... مسرح نتكلَّم عليه اللُغة التى يفهمها الفلَّاح والعامل ورجل الشارع، ونُقدِّم لهُ ما يُحب أن يسمعهُ ويراه...».
استضافت دار الأوپرا فرقة الريحانى فى عدَّة مُناسبات، منها افتتاح مسرحيَّة «حسن ومُرقص وكوهين» واعتُبرت تلك المسرحيَّة إحدى أروع مسرحيَّات الريحانى على الإطلاق، وكانت أبرز دليل على بُلوغه قمَّة تطوره. ويُبرهن فيها الريحانى على أنَّ كُل الفُروق - حتَّى الفُروق الدينيَّة - تتلاشى بِتأثير المال. وقال بديع خيرى إنَّ الفكرة خطرت للريحانى عندما ذهب وإيَّاه فى إحدى المرَّات لِزيارة مريض فى مُستشفى بِالفجالة. وفى أثناء سيرهما - بعد خُروجهما من المُستشفى - جذبت انتباه الريحانى لافتة متجر قريب كان ملكًا لِمسيحيّ ومُسلم. وفكَّر الريحانى مليًّا أمام هذا المتجر. فقد لاحظ كيف أنَّ الفُروق الدينيَّة ذابت بسُهولة وسط مصالح العمل، وأضاف قائلًا، إنَّ الأمر أدعى للتسلية حتمًا، لو كان للمسيحى والمُسلم شريك يهودي. وقد حقَّقت مسرحيَّة «حسن ومُرقص وكوهين» شعبيَّة ضخمة، فقد ظلَّت تُمثَّل بِدار الأوپرا طوال شهر (مارس). وفى (إبريل) انتقل عرضها إلى مسرح «ريتس». وفى نهاية (مايو)، سافر الريحانى لِيُمثل المسرحيَّة بِفلسطين، ثُمَّ بالإسكندريَّة وبِمُختلف مُدن الأقاليم المصريَّة بعد ذلك.
تُوفى نجيب الريحانى فى ٨ (يونيو) ١٩٤٩ عن عمر ناهز الستين عامًا، بعد أن تفاقمت حالته بسبب التيفوئيد، والذى أثر سلبًا على صحة رئتيه وقلبه وكان سببًا أساسيًا فى وفاته فى المستشفى اليونانى بالعباسيَّة. ولم يقم بتصوير مشاهده فى آخر أعماله «غزل البنات»، مما اضطر مخرج العمل، أنور وجدي، لعمل تغيير بنهاية العمل.
وكان لِنبأ وفاة الريحانى وقعٌ أليم فى أنحاء مصر، وُصف بأنَّهُ «لا يقل فى أثره عن وقع كارثة قوميَّة»، واشتركت الأُلوف فى تشييع جنازته، ورثاه الملك فاروق الأوَّل وعميد الأدب العربى الدُكتور طٰه حُسين.
ومن الأُمور الغريبة، أنَّ الريحانى كان قد رثا نفسه قبل وفاته بِخمسة عشر يومًا بِطريقةٍ فُكاهيَّة فيها نفحة من الألم، فقال: «مات نجيب. مات الرَّجُل الذى اشتكى منهُ طوب الأرض وطوب السَّماء إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذى لا يُعجبه العجب ولا الصيام فى رجب... مات الرَّجُل الذى لا يعرفُ إلَّا الصراحة فى زمن النفاق.. ولم يعرف إلَّا البحبوحة فى زمن البُخل والشح.. مات الريحانى فى ٦٠ ألف سلامة».
ألف تحية لروح الضاحك الباكى فى ذكرى ميلاده.