الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مرض اسمه.. "الغش"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الغش مرض اجتماعى، أو بتعبير أدق هو رذيلة أخلاقية ومخالفة قانونية، وسواء نظرنا إليه على أنه مرض أو رذيلة أو مخالفة، فإن انتشاره بين أفراد المجتمع ـ خاصةً داخل قاعات الامتحان ـ إنما يقتضى نظرة متعمقة إلى الجذور التى انبتته والعوامل التى ساعدت على انتشاره. 
قد تكون محاولة الغش أثناء تأدية الامتحانات الدراسية هى الصورة المألوفة للغش، غير أن هذا لا يعنى عدم وجود مظاهر أخرى للغش فى مختلف جوانب الحياة الاجتماعية: فالبائع الذى يحرص على دس أجزاء تالفة فى السلعة المبيعة، والمقاول الذى يغش فى مواد البناء، والكاتب الذى ينافق ويتملق، والباحث الذى يسطو على مجهود غيره، والطبيب الذى يهمل فى علاج مرضاه.. وباختصار نقول: إن كل من لا يحسن أداء عمله هو إنسان غشاش. 
غير أننا سوف نقتصر هنا على تحليل ظاهرة الغش المنتشرة بين الدارسين فى المدارس والجامعات، إذ إن انتشار هذه الظاهرة بين التلاميذ والطلاب لا يكشف عن خلل فى العملية التعليمية فحسب، وإنما يؤكد وجود تصدع فى البنية الاجتماعية. ولا شك أن النظرة السطحية للأمور هى التى تجعلنا نواجه ظاهرة الغش الدراسى بمزيد من الرقابة الصارمة، حتى لتغدو قاعات الامتحان أشبه بمعسكر اعتقال، ولكن هذه التدابير كلها لم تقض على الغش، بل ساعدت على انتشاره وأدت إلى تفنن الطالبات والطلاب فى البحث عن أساليب للغش أذكى وأشد خفاء. وحين تكون الظاهرة متأصلة على هذا النحو، يتعين أن نبحث عن أسبابها فى مجمل منظومة القيم الاجتماعية السائدة، لا فى الوسط التعليمى وحده. منذ سنوات حدثت ضجة كبرى بسبب ظاهرة «الغش الجماعى»، ورأينا كيف أن الأهالى اقتحموا المدارس أثناء الامتحانات فى عدة محافظات لتمكين أبنائهم من الغش، وأن مدارس أخرى أحيطت بمكبرات الصوت لإملاء الإجابة على التلاميذ والطلاب. ولقد تصدت السلطات المسئولة حينئذٍ لهذه الواقعة، كما تناولت وسائل الإعلام هذه الظاهرة بالتحليل والتعليق، ثم هدأت الأمور وكأن شيئًا لم يكن!!.. ومنذ فترة قريبة قامت الدنيا وظننا أنها لن تقعد بسبب تسرب امتحانات شهادة الثانوية العامة، لكنها ما لبثت أن قعدت، بل وراحت فى سبات عميق!!
ويبدو أن الانفعال الشديد بالحدث وقت وقوعه، ثم نسيانه بعد فترة من الزمن، وكأنه لم يقع أصلًا، هى سمة يتسم بها شعبنا والشعوب العربية عامة، ولما كنا لا نود الخوض فى مناقشة طويلة نحلل ونفند من خلالها هذه السمة، فسوف نكتفى بالقول إن ظاهرة الغش مازالت باقية رغم كل التدابير التى تمت والتى تتم. ومن ثمَّ يتحتم أن يظل اهتمامنا بهذه الظاهرة قائمًا مستمرًا، لا على أنها إحدى الظواهر الجزئية المتعلقة بالعملية التعليمية، وإنما بوصفها ظاهرة اجتماعية عامة. وليس من الصعب أن يقدم المرء أدلة وشواهد تثبت صحة هذه القضية، بل إن الصعوبة ربما كانت تكمن فى اختيار أوضح الأمثلة من بين ذلك العدد الهائل من المشكلات التى تثبت كلها ارتباط أحوال التعليم بأوضاع المجتمع.
وعلى أية حال فإن عددًا قليلًا من الأمثلة الدالة، يكفى لكى يثبت أن انتباهنا الراهن إلى عيوب التعليم ينبغى أن يفضى إلى وعى أوسع بالأصول الاقتصادية والاجتماعية التى تولدت عنها هذه العيوب. فنحن مثلًا نعاقب الطالب الغشاش، ولكننا لا نعير التفاتًا إلى الأستاذ الذى يقرر على طلابه كتابًا عقيمًا، فالهم الوحيد لهذا الأستاذ التاجر هو مقدار ما يتحصل عليه من كسب مادى بغض النظر عن الفائدة العلمية التى تعود على الطالب من دراسته لهذا الكتاب أو ذاك، وإذا كان الطالب يتفنن فى أساليب الغش، فإن الأستاذ يتفنن أيضًا فى أساليب التحايل من أجل ترويج كتبه، فهو يبدل ويغير فى فصول كتبه المقررة على الطلاب دون أن يضيف جديدًا، والهدف فى النهاية هو الكسب المادى لا المصلحة العلمية.
إذا كان الكتاب رديئًا، والمادة العلمية عقيمة، والأستاذ لا يشرح شيئًا، وهدف الطالب هو الحصول على شهادة أو «رخصة» تمكنه من الالتحاق بعمل أو وظيفة لا وجود لهما، فماذا نتوقع من الطالب سوى الغش إذا أتيحت له الفرصة. إن السعى للقضاء على ظاهرة الغش فى ظل هذه الظروف، هو أشبه بسعى الشخص الأعمى للعثور على قطة سوداء فى غرفة مظلمة لا وجود لها.
إن ما نقوله ليس دعوةً إلى الغش أو تبريرًا له، بقدر ما هو تعبير عن عقم النهج المتبع فى محاربة ومحاصرة ظاهرة الغش فى المدارس والجامعات، وكشف الخلل الاجتماعى الذى من ضحاياه الطالب والأستاذ معًا.
تبقى مسألة أخرى تتعلق بظاهرة الغش، وهى غياب القيم الديمقراطية. إذ إن العملية التعليمية فى بلادنا تفتقر إلى روح الحرية، فالأستاذ داخل قاعة الدرس يقف وسط جمع من الطلاب الصامتين الخاشعين وكأنه نبى أو إله!! هو يقول والطالب يتلقى أقواله دون جدل أو حوار.
فى اعتقادى أنه ليس هناك ما هو أخطر على عقلية الدارس من هذه الطريقة الدكتاتورية فى التعلم، التى تجعل الأساتذة أوصياء على عقول الطلاب ووجدانهم. وكأن هؤلاء الطلاب مجرد أجهزة تستقبل كل ما يأتيها دون أن ترسل من عندها شيئًا!! إن هذه الطريقة فى التعليم لها أضرار وعواقب وخيمة تهدد مستقبل الأمم قبل الأفراد، لأنها تكرس قيم الخضوع والاستكانة، فهى فى صميمها تستند إلى مفهوم الأستاذ «الأوحد»، وبالتالى فهى تروج لفكرة «الزعيم الأوحد».
يرفض بعض الأساتذة فتح باب الحوار والمناقشة داخل قاعة الدرس، بزعم أن هذا الأمر سوف يؤدى إلى الفوضى والاضطراب بين الطلاب، وبالتالى عدم إفادتهم الإفادة العلمية الواجبة. غير أن هذا الزعم هو أبعد ما يكون عن الصواب، لأن الطالب يشعر بمسئولية أكبر عندما يتوافر له قدر أوفر من الحرية. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن العملية التعليمية عندما تسير من قطب موجب هو الأستاذ وقطب سالب هو الطلاب، إنما تؤدى فى نهاية الأمر ـ كما هو الحال عندنا ـ إلى ظاهرة الحفظ الحرفى للمعلومات العلمية، دون محاولة هضم هذه المعلومات أو الاعتماد عليها فى حل المشكلات التى يواجهها الإنسان فى حياته، ولا شك أن طريقة الحفظ تفضى إلى ظاهرة الغش.
مما سبق يتضح لنا عقم محاولة معالجة أية ظاهرة اجتماعية بمعزل عن الفهم الصحيح لبقية الأحوال السياسية والاقتصاديـة والاجتماعية والثقافية السائدة.