الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا رجعنا إلى تاريخ الفكر الفلسفى سنجد أن الإنسان هو الكائن الأخلاقى الذى يحمل «أمانة القيم»، بمعنى أن ما يُكون ماهية وجوده- من الناحية الأخلاقية- هو ما لديه من قدرة على حمل القيم الأخلاقية. وقد أطلق «سقراط» Socrates (٤٧٠ – ٣٩٩ B.C) شعاره المعروف والذى يعبر عن كل فلسفته «أعرف نفسك بنفسك»، هذا الشعار لا يكشف عن نظرية خاصة فى طبيعة النفس ومصيرها، بقدر ما يكشف عن مضمون أخلاقى مستمد مما يترتب على هذه المعرفة بالنفس من توجيه معين لحياة الإنسان وقيمه وسلوكه. فمعرفة النفس عنده هى معرفة «قيمة الخير» وتحقيق الفضيلة؛ لأن من يعرف نفسه يعرف ما يناسبها، أى يعرف الخير الخاص بها. وترتب على مبدأ «اعرف نفسك» نظريته الأخلاقية التى تتلخص فى أن «الفضيلة علم والرذيلة جهل»، فجهل الإنسان بقيمة الخير هو وحده مصدر الشقاء والشر. أما «أفلاطون» Plato (٤٢٧ – ٣٤٧ B.C) فقد كان أعظم المدافعين- فى العالم القديم- عن فكرة موضوعية القيم، ولعل الأمر الذى حال بينه وبين وضع مذهب أخلاقى مطلق بالمعنى الكامل لهذه الكلمة، هو أنه كان متأثرًا بذلك الاتجاه العام فى الأخلاق اليونانية إلى تأكيد فكرة «السعادة» بوصفها غاية لسلوك الإنسان، وإلى تجاهل فكرة «الواجب» بوصفها قطبًا آخر يمكن أن تنجذب إليه أفعال البشر. وبالرجوع إلى أوصاف الخير فى الكتاب السادس من «الجمهورية»، بوصفه قيمة عليا، سنجد أن أفلاطون جعل منه مبدأ كونيًا، إلى جانب كونه قيمة؛ ونظر إليه على أنه أرفع موضوعات المعرفة والعلم، لا الأخلاق فحسب. 
أما «أرسطو» Aristotle (٣٨٤ – ٣٢٢ B.C)؛ فقد كتب العديد من الكتب فى فلسفة الأخلاق، إلا أن كتابه «الأخلاق إلى نيقوماخوس». يُعد من أهم هذه الكتب، فهو غنى بتحليلاته للمعانى الأخلاقية والنفسية التى تنظر إلى ضروب النشاط البشرى على أنها سلسلة متدرجة من مظاهر «الخير» أو«القيم». لقد كان «أرسطو» يرى- على خلاف «أفلاطون»- أن المجال الواقعى الوحيد هو العالم الطبيعى المنظور، فالواقع والمثال الأعلى، والطبيعى والروحي، هما حقيقة واحدة لا تنفصم. مثل هذا الرفض للثنائية يعنى أن قيمة الحياة ينبغى أن تُوصف على أساس عالمنا هذا، دون أية إشارة إلى المجال العلوى أو المجال فوق الطبيعي. وعلى ذلك فلا بد لكشف طبيعة الحياة الخيرة أو صورة «الخير الأسمى» من دراسة طبيعة الإنسان، معنى ذلك أن الأخلاق إنما تهدف إلى البحث فى أفعال الإنسان من حيث هو إنسان، وتهتم بتقرير ما ينبغى عمله وما ينبغى تجنبه لتنظيم حياة الموجود البشرى. يقول: «كل الفنون، وكل الأبحاث العقلية المرتبة، وجميع أفعالنا، وجميع مقاصدنا الأخلاقية يظهر أن غرضها شيء من الخير نرغب فى بلوغه... إنه موضوع جميع آمالنا».
اتفقت «الأبيقورية» و«الرواقية» فى تصور الغاية القصوى من حياة الإنسان، وإن اختلفت أساليب كل منهما لبلوغ هذه الغاية، أى لبلوغ السعادة التى تحقق طمأنينة النفس وهدوء البال. فالتمست «الأبيقورية» هذه السعادة نفسها فى حياة الراحة والخلو من المخاوف والانفعالات، وتوخت الابتعاد عن الآلام ورحبت بالتمتع بالملذات؛ وأقامت موقفها الأخلاقى على أساس مبدأ «اللذة» الذى هو «الخير الأسمى» والألم الذى هو الشر الأقصى، وليست الفضيلة قيمة فى ذاتها ولكن قيمتها تستمد من اللذات التى تقترن بها. وهذا ما قاله «أبيقور» Epicurus (٣٤١ – ٢٧٠ B.C)- متأثرًا بسلفه «أرستبوس» القورينائى Aristippus (٤٣٥ – ٣٥٥ B.C)- حيث رأى أن كل لذة فضيلة، وكل فضيلة إنما مصدرها اللذة. أما «الرواقية» فقد توصلت إلى أن مفهوم السعادة يعمل على قمع الأهواء ووأد الشهوات ومحاربة اللذات والإشادة بحياة الزهد والحرمان، تحقيقًا للسعادة السلبية (وهى تعنى البعد عن كل ألم) التى كانت سمة العصر كله. فالرواقى كان يرى أن الحياة الخيرة – التى ينبغى لكل حكيم أن يسعى إلى أن يحياها – هى تلك التى يتحدد بها واجب الإنسان على أساس قانون الطبيعة أو النظام العقلى للكون، هذا القانون يحدد لكل فرد مكانه فى نظام الأشياء؛ ويقرر الواجبات والالتزامات التى تتمشى مع هذا المركز المحدد. ومن هنا كان قوام الحكمة – عند الرواقيين – هو الاعتراف بهذه المكانة، وبما يرتبط بها من واجبات؛ وبالتالى العيش فى وفاق واع مع الطبيعة، أى مع العقل.
وأصبح قوام الحياة الأخلاقية مع «المسيحية» هو طاعة القانون، الذى يختلف كل الاختلاف عن القانون الذى اعترفت به «الرواقية»؛ هذا القانون الجديد ليس قانونًا يكتشفه العقل البشرى، وإنما جاء من الوحى الإلهى الذى لا نملك حياله إلا أن نطبقه؛ لأنه تعبير عن الإرادة الإلهية؛ وما دمنا نعتقد أن القوة التى تسهر على تنفيذ هذا القانون إرادة إلهية خيرة، فسوف يكون ذلك قانونًا خيرًا يعبر عن قيمة عليا. ولهذا رأى «القديس أوغسطين» St.Augustine (٣٥٤ – ٤٣٠) – فى كتابه «الاعترافات» – أن كل المكاسب العقلية لم تستطع أن تُشبع نهمه الروحي، ما دام «الخير الأسمى» الذى يمكن أن يكفل لنا السعادة، إنما يتوقف على توجيه الإرادة توجيهًا صحيحًا نحو المحبة الإلهية. ويؤكد «القديس توما الأكوينى» T.Aquinas (١٢٢٥ – ١٢٧٤) أن «القيمة العليا» التى هى مبدأ كل القيم، ليست شيئًا آخر سوى الله نفسه؛ لأن الله هو الخير الذى تكون جميع الخيرات الأخرى فى حياة الإنسان تابعة له ومندرجة تحته. 
وبين «ديكارت» Rene. Descartes (١٥٩٦ – ١٦٥٠) الطرق التى تؤدى بالعقل إلى بلوغ الحقيقة فى كل بحث أخلاقي، يسعى للوصول إلى الحكمة، التى هى غاية الفلسفة؛ فقد رأى أن موضوع الأخلاق تدبير أفكارنا وهداية أعمالنا على الوجه الملائم، لكى ننال قيمة السعادة، وأمثل السبل وأوثقها – لكى نعمل أعمالًا ملائمة للسعادة – هو أن نعمل وفقًا للعقل. ورأى أيضًا أن الخير الأسمى هو معرفة الحق، لأن الخير والحق أمر واحد. يقول: «لما كانت إرادتنا لا تميل إلى السعى وراء شيء أو الانصراف عنه إلا لأن ملكة الحكم عندنا تُصور لنا ذلك الشيء حسنًا أو قبيحًا، فيكفى أن نحكم حكمًا حسنًا لكى نفعل فعلًا حسنًا». معنى ذلك أن الإرادة هى التى توجه أفكارنا، فيكون صنيعها حسنًا إذا اهتدت بأفكار واضحة متميزة، ويكون صنيعها سيئًا إذا استرشدت بأفكار غامضة مبهمة. والقاعدة المثلى لإرادتنا – فيما يرى «ديكارت» – هى أن نريد العالم على نظامه الذى وجُد عليه، إذ ليس لنا سيطرة كاملة إلا على أفكارنا، وما دام الأمر كذلك فخليق بنا أن نسعى لمغالبة رغباتنا لا لتغيير نظام العالم.