الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

كيف ينظر المبدعون الأتراك للمشهد في بلادهم؟

إليف شافاق
إليف شافاق
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كيف ينظر المبدعون الأتراك للمشهد الراهن في تركيا؟ ها هي الأديبة والمبدعة التركية اليف شفق تقدم الإجابة التي تعبر عن ضمير المثقف الحر وحكمة استنطاق التاريخ.
وتتحدث صاحبة "مرايا المدينة" و"النظرة العميقة" و"قواعد العشق الأربعون"، عن الدول التي لا تتعلم دوما من التاريخ وهي ظاهرة محزنة تعاني منها الآن تركيا في ظل نظام حكم رجب أردوغان؛ "حيث لا يتحرك التاريخ إلى الأمام بل يتراجع للخلف فيما لا يتعلم النظام الحاكم شيئا مفيدا من أخطائه".
ومن الواضح ان نظام اردوغان لم يتعلم شيئا أيضا من التاريخ وهو يمضي بحمق لفرض تصوراته الظلامية و"أوهام العثمانية الجديدة" على الجوار ودول المنطقة، فهناك فارق جوهري حقا بين تفاعلات حرة وطبيعية وتلقائية وتاريخية ومستديمة بين العرب والأتراك كمكونين أصيلين في العالم الاسلامي، فضلا عن علاقة جوار وتقاسم لسمات حضارية وعوامل ثقافية، وبين هيمنة ثقافة على أخرى كما هو الحال في "مشروع تتريك المنطقة"، أو "العثمانية الجديدة".
ومن منظور تاريخي، فإن الكثير من مثقفي الأمة العربية مثل عبدالرحمن الكواكبي دفعوا ثمن المواجهة مع "ثقافة التتريك" التي كانت تنتهجها دوائر عليا في الامبراطورية العثمانية لاعلاء الثقافة التركية على حساب الثقافة العربية بل ومحاولة تهميش هذه الثقافة رغم أنها مرتبطة جوهريا بالإسلام.
وواقع الحال أن أيديولوجية "العثمانية الجديدة"، والتي لا تعني في جوهرها إلا "تتريك المحيط الإقليمي الواسع وفرض النفوذ التركي على منطقة شاسعة على غرار الإمبراطورية العثمانية القديمة، باتت تحكم وتتحكم في السلوك السياسي لنظام أردوغان بقدر ما يدفع المبدعون والمثقفون الأتراك مثل اليف شفق ثمنا باهظا لهذا السلوك.
وبعد نشر روايتها "لقيطة إسطنبول" عام 2006 في تركيا تعرضت اليف شفق لحملة شعواء من جانب التيار الأردوغاني حتى أنها مثلت أمام القضاء كمتهمة باهانة وطنها غير أن الأمور تتفاقم أكثر الآن.
فالأوضاع بالنسبة للكتاب والمبدعين والناشرين- في نظر اليف شفق-لم تكن أبدا مخيفة وقاتمة مثلما هي اليوم فيما تضيف في طرح نشرته بالإنجليزية في جريدة "الجارديان" البريطانية انه على مدى العقد الأخير راحت هذه الأوضاع تتفاقم تدريجيا في البداية ثم مضت تتردى بسرعة مخيفة.
ولم تتردد هذه المبدعة التركية الكبيرة وصاحبة رواية "شرف" في توجيه الاتهام لنظام أردوغان باعتباره سبب هذا التردي المخيف في المشهد الإبداعي التركي وتفاقم أوضاع المبدعين والكتاب والناشرين، معتبرة أن نظام اردوغان "مناهض للديمقراطية وتعدد الآراء والتنوع والتسامح"، ناهيك عن قيام هذا النظام بتغيير جوهر الحكم الذي كان يقوم على "الديمقراطية البرلمانية" إلى دولة "يحتكر فيها أردوغان السلطة وتقوم على الحكم المطلق".
وهكذا تنعي اليف شفق الديمقراطية في تركيا في غياب سيادة القانون والفصل بين السلطات والحريات الأكاديمية وحقوق النساء فضلا عن غياب حرية الاعلام معيدة للأذهان أن الآلاف من المثقفين الأتراك طردوا من وظائفهم في ظل نظام الحكم الأردوغاني وصعود أيديولوجية التطرف ورفض التسامح مع حرية التفكير بشكل مختلف.
وأشارت الى ظاهرة استخدام نظام أردوغان "لسلاح الملاحقات القضائية ضد المفكرين والمبدعين والكتاب والصحفيين والأكاديميين" معيدة للأذهان أن أحد أشهر رسامي الكاريكاتير في تركيا وهو موسى كارت قضى خمسة اشهر في السجن ثم نال إفراجا مشروطا ويمكن أن يدخل السجن مجددا ولكن هذه المرة لمدة تصل إلى 29 عاما.
ومن ثم لم يعد من المستغرب القول بأن أخطر المهن في تركيا الأردوغانية هي تلك التي ترتبط بحرية التفكير والإبداع والتعبير مثل الصحافة والأدب وهو وضع عانت منه اليف شفق بعد ان نشرت رواية "لقيطة إسطنبول" في تركيا.
ورواية "لقيطة إسطنبول" تتعرض للمجازر التي تعرض لها الأرمن في تركيا عامي 1916 و1917 وهي مسألة تعد من المحرمات التركية بينما تصف اليف شفق هذه الرواية وهي السادسة لها بأنها في الحقيقة رواية حول الأسرار العائلية المدفونة واهمية كشفها والحديث عنها علانية وان كان بعضها يدخل في باب المحرمات السياسية في بلادها.
وتقول شفق، التي ولدت في الخامس والعشرين من أكتوبر عام 1971 إنها ذهبت في "تآملات حول الرحلة الثقافية والسياسية لتركيا" عندما طلبت منها "راديو 4" التابع لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" تقديم روايتها "لقيطة إسطنبول" في سياق مايعرف "بموسم القراءة الأوروبي" في شهر يناير الجاري.
وإذ أوضحت بحسها الصوفي ان "رحلة التآملات دارت في أيام وسنوات مابعد نشر روايتها لقيطة إسطنبول في تركيا" فان اليف شفق التي ترجمت أعمالها لنحو 30 لغة ترى ان تركيا تشهد الآن "صداما بين الذاكرة وفقدان الذاكرة" فيما يعاني المجتمع التركي عموما في ظل نظام رجب اردوغان من اعراض فقدان الذاكرة.
واليف شفق التي ذاع صيتها الأدبي بشدة بعد عملها الإبداعي "قواعد العشق الأربعون" تقول إن التيار الحاكم في تركيا بقيادة رجب طيب اردوغان يعمد لاستخدام كلمات وتعبيرات غامضة او مبهمة مثل "إهانة الشخصية التركية" لتكميم أفواه المبدعين وقمع حرية التعبير.
كما تشير هذه المبدعة التركية التي تعيش في بريطانيا حاليا لمسألة مهمة وهي اقتناص عبارات أو كلمات في الأعمال الإبداعية والخروج بها من سياقاتها في هذه الأعمال لمحاكمة المبدعين موضحة ان ذلك ماحدث معها عندما قام الادعاء باقتناص كلمات وردت على ألسنة شخصيات ارمينية في روايتها "لقيطة إسطنبول" وخرج بها بعيدا عن سياقات الرواية لاستخدامها كدليل اتهام في المحكمة بينما كان من الطبيعي أن يدافع محاميها عن "الخيال الإبداعي" ليتحول المشهد داخل المحكمة إلى "مشهد سريالي" على حد وصفها.
ووسط تظاهرات غاضبة للجماعات المتشددة التي يرعاها النظام الأردوغاني تعرضت اليف شفق للعديد من مظاهر الترويع من بينها "البصق على صورها" غير أنها تستلهم في المقابل كمبدعة روح الصمود من مواطنيها الذين يقفون إلى جانب حرية الإبداع والتعبير ويستنكرون النزعة الظلامية واستهداف أصحاب الكلمة الحرة.
ولعل ما تعرضت له اليف شفق يعيد للأذهان ماتعرض له الأديب النوبلي التركي اورهان باموق من ضغوط وملاحقات في بلاده بعد أن أعلن بضمير المثقف وشجاعة المبدع أن "مليون أرميني و30 ألف كردي قد قتلوا على هذه الأرض ولكن لا أحد يجرؤ على قول ذلك" فيما تعرض لملاحقات قضائية في بلاده بعد اتهامه "باهانة الهوية التركية".
والأمر قد لا يكون بعيدا عن شعور باموق باشكالية الهوية في بلاده التي تتجه في ظل نظام رجب طيب أردوغان "لأوهام العثمانية الجديدة" وتبتعد "بطابعها السلطاني الأردوغاني" عن الديمقراطية وتخاصم حرية الكلمة ويدرك اورهان باموق الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 2006 حدة اشكالية الهوية في بلاده كما انه يستشعر "مناخ الخوف" الذي اشاعه نظام رجب طيب أردوغان.
وتتفق اليف شفق مع النوبلي اورهان باموق في التنديد بدعم نظام أردوغان للجماعات الظلامية وممارساته لتحويل تركيا إلى تربة خصبة لأفكار التطرف فيما باتت الثقافة الرسمية السائدة الآن في تركيا الأردوغانية مزيجا من السلطوية الشمولية والرجعية الظلامية والتمييز ضد النساء والتعصب بكل صوره وهي ثقافة ترى اليف شفق بأنها لايمكن ان تؤهل تركيا لتحقيق حلمها في الانضمام للاتحاد الأوروبي.
ومن المثير للتأمل ان "تركيا أردوغان" التي تعاني من إشكاليات تتعلق بالهوية واستقطابات حادة حول تصورات أساسية لأنماط الحياة والقيم بما يشكل اساسا خطرا لانقسامات مجتمعية واحتمالات انفصالية تريد تصدير هذه الإشكاليات للدول العربية بما يخدم أيديولوجية هذا النظام واوهامه المتعلقة "بالعثمانية الجديدة".
ورغم ان "الثقافة الذكورية المنعصبة" تتحكم في وسائل الإعلام والمنابر الثقافية التركية فإن اليف شفق ترى ان النساء في بلادها هن "حارسات الذاكرة الجمعية لتركيا كما أن المرأة هي صاحبة النصيب الأكبر في اثراء تقاليد الحكي الشفاهي والسرد الشعبي.
وتؤكد أن المشهد الثقافي والإعلامي والأكاديمي في تركيا ازداد سوءا منذ المحاولة الانقلابية في عام 2016 حيث جرى اغلاق اكثر من 160 منفذا إعلاميا ووجد أكثر من 150 صحفيا أنفسهم في السجون وطرد أكثر من أربعة آلاف أكاديمي من الجامعات ومضى نظام الحكم الأردوغاني في "حملات تطهير تضمنت وضع أسماء مثقفين وصحفيين في القوائم السوداء ومصادرة جوازات سفرهم".
وفي هذه الأجواء الخانقة من الطبيعي ان تزدهر ظاهرة "الرقابة الذاتية" في الصحف ووسائل الاعلام والمنابر الثقافية وان تتقلص مساحة النقاش العام في البلاد فيما تلاحظ اليف شفق اتساع نطاق ظاهرة "زواج الأطفال" كثمرة مريرة من ثمار الأفكار الظلامية التي يرعاها نظام اردوغان في تركيا وامتدت ممارسات "غسل الأدمغة" لتشمل تغيير المناهج التعليمية وبصورة لم تعرفها تركيا من قبل.
ولعل ذلك كله يفسر ظاهرة تصاعد هجرة المثقفين الأتراك خارج بلادهم مثل اليف شفق التي اضطرت للإقامة خارج تركيا فيما تقول بأسى ان الكثير من الأكاديميين والصحفيين وأصحاب الأفكار الليبرالية يغادرون الوطن ولكن الكثير من المثقفين "من أصحاب الأرواح الشجاعة" أيضا اختاروا البقاء في الداخل رغم كل المخاطر التي تتهددهم.
وإذا كان اورهان باموق قد استحالت روايته: "غربة في عقلي" الى نص مداده الشجن ويكاد يكون مرثية لزمن اسطنبول الذي ذهب بلا عودة لتشكل هذه الرواية "انشودة حزينة" حقا بقدر ماتحمل "وجد العشق لأسطنبول التي يتبدد ماضيها الجميل وتنتحر أيامها الخوالي"، فان اليف شفق تخلص في نهاية تآملاتها للمشهد في بلادها بأن تركيا التي كان ينظر لها من قبل كجسر للتواصل البناء بين أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وكنموذج يمكن ان يحتذى في العالم الإسلامي فقدت دورها البناء بعد أن فقدت ديمقراطيتها فيما تحولت الى "بلد التعساء".
وإذا كانت حكمة التاريخ تقول بأن شعب تركيا بكل مكوناته هو شعب شقيق للأمة العربية فان المثقفين المصريين والعرب ككل يحملون كل الاعتزاز والتقدير للشعب التركي.. قلوبنا وعقولنا مع الشعب التركي وطليعته من المثقفين الأحرار وليهبنا التاريخ والواقع قدرة الأمل وإمكانية التفاؤل رغم دوامة الأوجاع وفحيح المؤامرات وجموح الأوهام.