الثلاثاء 07 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

القيم.. حقائق دينية أم حاجات اجتماعية؟ "4"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لفظ «قيمة» من حيث اللغة له عدة دلالات: «قيمة الشيء» قدره، أى قدر قيمته، وقيمة المتاع ثمنه؛ ويقال أيضًا: «قومت السلعة» أى ثمنتها. هذا يعنى أن لفظ «قيمة» يمكن أن يخص أمرًا ماديًا بالوصف، كما يمكن أن يدل على شيء معنوى يصف حالة من حالات الإنسان وعلاقاته. ولا شك أن اللفظ فى الغالب، يحمل هذين المعنيين، إذ أن الاقتصاديين يستعملونه من أجل الدلالة على الثروة المالية التى بواسطتها يتم البيع والشراء؛ وهم يتحدثون عادة عن نوعين من القيم: قيم الإنتاج، وقيم الاستهلاك وارتباطهما بالعرض والطلب، وهم يحرصون على تبين العناصر المكونة للقيمة وهما، كما يقول الاقتصاديون: مادة أولية وعمل. كما يحمل «لفظ القيمة» معنى إنسانيًا عميقًا لا يتحقق إلا بالقدرة على العمل والعطاء، وبالتالى فإن «القيمة» لا تتحقق بالقوة أو القهر، ولكن تتم بالقدرة والإرادة: إرادة عمل تتبعها إرادة حرة. ويقول «إميل برهييه» Emile Brehier (١٨٧٦ – ١٩٥٢) «إن الناس جميعًا يدركون ما القيمة الأخلاقية لعمل من الأعمال، وما القيمة الغذائية لنوع من الطعام، وما القيمة الفنية للوحة من اللوحات، وذلك أن الشيء الذى يدخل فى حوزة العمل، أو يتدخل فيه، من طعام، أو لوحة، يعطى لهذا العمل قيمته وثمنه ويجعله موضعًا للرغبة فيه من حيث المبدأ. فالقيم هى الأوصاف كالجميل والقبيح، والخّير والشرّير، والشريف والوضيع، والعدل والجور، والطاهر والخبيث، والشهيّ والمنفَر... وكل قيمة إيجابية تُصحب بقيمة سلبية». ولفظ «قيمة» فى اللغة القديمة مشتق من فعل Valere بمعنى «ما هو ثمين» أو جدير بالثقة. ويرى «لوى لافيل» Louis Lavelle (١٨٨٣ – ١٩٥١) أننا نستخدم كلمة «القيمة» عندما نريد تفضيل بعض الأشياء على البعض الآخر، وهذا يعنى أننا نضع عادة تصنيفًا للأشياء ونعلى بعضها على البعض الآخر حتى يبدو بعضها أساسيًا والآخر ثانويًا أو فرعيًا. ومن الخطأ أن نظن أن هذا التصنيف يعتمد على طبيعة الأشياء ذاتها لأنه يعتمد فى الحقيقة على عملية التقييم نفسها وعلى الحكم الذى نحكم به على الأشياء ذاتها. ويعود الفضل فى استعمال مصطلح «حكم القيمة» إلى «ألبرت ريتشل» Albrecht Ritschl (١٨٢٢ – ١٨٨٩) هذا المصطلح هو أكثر المصطلحات استعمالًا عند المشتغلين بالبحث فى مجال القيمة. وجاءت أهمية «ريتشل» فى أنه رد الأحكام الميتافيزيقية إلى أحكام وجود، والأحكام الدينية إلى أحكام قيمة. وأحكام القيمة على اختلاف تنوعها سواء كانت كلية أم جزئية، موجبة أم سالبة؛ لها بنية صورية واحدة، وإن اختلفت صور تفسيرها؛ فهى عند «لافيل» تعبر عن فعل المشاركة فى حقائق مطلقة. ويرتبط مفهوم القيمة عنده بكلمة «الوجود»، بمعنى أنها وجود جديد يخلق طرازًا جديدًا من التفكير الفلسفى يُعرف بعبارة «علم القيم»، أو «فلسفة القيم» أو «نظرية القيم». وهكذا تبدو «القيمة» حاضرة فى سلوك الإنسان، وهى التى تحدد اتجاه هذا السلوك وترسم مقوماته وتعين بنيانه.
ولا شك أن الإنسان مارس «مفهوم القيمة» فى سلوكه منذ ظهوره على وجه الأرض، فموقف التقييم فطرى فيه، ومعاييره -فى رأيه- توجه أحكامه على الأشياء، ويمكننا أن ننظر إلى تاريخ الثقافات القديمة لنعرف كيف احتل مفهوم القيمة مكانة بارزة. فثقافة المصريين القدماء تتركز على مفهوم الحياة الثانية، بحيث نلاحظ أن مختلف جوانب حياة الفرد تتأثر بفكرة استمرار وجوده. واتجه الفن إلى تقدير ضرورة الحفاظ على الجسد وتقدمت بذلك صناعة التحنيط، التى ارتبطت بمفهوم الخلود. وكانت الحروب والغزوات وفن التجارة وصناعة الأوانى وغيرها من أوجه النشاط، قائمة على خدمة الفكرة القائلة بالحياة الثانية، وحتى الطقوس الدينية كانت من أجل تأكيد قيمة هذه الحياة. أما الحضارة الفارسية فنجد فيها فكرتى «الخير» و«الشر» تسيطران على مجالاتها المختلفة وتظهر هذه الثنائية فى صورة شخصيتين هما: «أورموزد» Ormazd، و«أهريمان» Pihriman، فى حالة صراع دائم، وهما يمثلان ضمير الإنسان. ولذلك نجد أصحاب هذه الثنائية يتحدثون عن دور الزمان المطلق الذى يولد هذين التوأمين، لأن الزمان هو المحك الأساسى فى نشاطهما وهو الذى يؤكد تضادهما. ويرون أن هذا الصراع قام من أجل التعرف على «النور» أى من أجل الظفر بصفاء الروح ونجاة الجسد. ومفهوم القيمة فى هذه الثقافة يقوم على تقبل مبدأى الخير والشر اللذين لا يتوقفان لحظة عن إيقاظ ضمائر الناس للبحث عن «النور»، فالضمير الإنسانى يمثل حقل نزاع من أجل نصرة مفهوم قيمة الخير. وإذا نظرنا إلى حضارة «الهند» فسنجد أن «مفهوم القيمة» يرتبط بالقوة المقدسة أى «براهما» Brahman. وهو مصطلح فى الديانة الهندوسية يدل على الحقيقة النهائية فى العبادة، وهو اسم محايد من حيث الجنس، وهو يشير إلى القوة المقدسة الكامنة فى طقوس الأضاحى التى يقوم بها رجال الدين ويسمون «البراهمة». ويُنْظَر عادةً إلى رجل الدين البرهمى كما لو كان إلهًا. وهو يُعرف فى الكتب المقدسة على النحو التالي: هناك نوعان من الآلهة: الأول الآلهة على نحو ما نعرفها، والثانى هم هؤلاء البراهمة الذين يعرفون بالفيدا Vades أى الآلهة البشر. وهم يمثلون أيضًا ضمائر الناس. فإذا ما تحقق للفرد أن تطابقت ذاته مع براهما أو الوجود المقدس فإنه عندئذ يتخلص من كل الشرور التى تصاحب وجود الظواهر الجزئية. أما «البوذية» فإنها تتميز بنظرة تشاؤمية تقوم على إنكار كل قيمة للحياة وترى أن مفهوم الشر يكمن فى مولد الإنسان وما يعتريه من أمراض، فى شيخوخته وفى وفاته. ولا تكون هناك قيمة خيـِّرة إلا فعل الإنسان الذى يحاول من خلاله التخلص من هذه المساوئ. وهذا الموقف يترتب عليه بعض القيم الخيـِّرة مثل التخلص من الأنانية والبعد عن كل ما يهدر كرامة الإنسان.