الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة.. فى انتظار الغد

لوحة للفنان عمر الفيومي
لوحة للفنان عمر الفيومي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بعد ساعات طويلة، أفاق لنفسه ليرى ظلاما كاد أن يتلاشى تحت ضوء الشمس الذي كان يتخلل فراغات النافذة الموصدة. حاول عبثا العثور على الساعة ليعرف الوقت، فلم يستطع، فقد كان لا يزال مستلقيا على الفراش بينما كانت يداه تبحثان حول الوسادة وأسفلها إلى أن باخت رغبته فأضحت معرفة الوقت شيء لا قيمة له عنده، تحت وطأة الإرهاق والوخم اللذين كانا يثقلان جسده.
الأثاث البسيط المتناثر حول الفراش كان يخيم عليه جمود أكثر مما فى طبيعته، أو ربما شىء أقرب إلى الصمت الخانق الثقيل، الذى يبث فى الجو كآبة خبيثة لا يعرف سببها مهما أضنى ذهنه فى التفكير، وفى الواقع كثيرا ما فعل ذلك، ليس بشأن ذلك الأمر فقط، بل فى بعض التى بالأحرى تتعلق بكل مناظر الموجودات من حولة التى طالما حاول أن يستجوبها لعله يعرف من أين أتت الأرادة الصلبة على الصمت. كالأشجار فى المدينة التى كانت تصطف على جوانب بعض الشوارع الكبيرة، والنخيل الذى يعلو حافة الترعة التى تستقيم بطولها الممتد أمام دارهم فى البلدة، حتى الطيور صارت مثل «الحربيات» دائما ما كانت تصطبغ بلون ـــ القتامةـــ الشىء الذى تحط عليه.
هكذا كانت معاناته مع ما تقع عليه عيناه فى الشهور الأخيرة. لم يكن لهذا أثر عليه الآن فى أنه لم يجد حافزا يحثه على النهوض ليباشر بعض شئونه، بل كان يتساءل عن الخمول والفتور واستسلامه للامبالاة، فلم يستطع العثور على إجابة سوى أن الأمر عادى، فطالما كان يعتريه ما كان يشعر به الآن فى كثير من الأوقات الماضية.
كانت هناك منضدة وبشكل قريب منها يوجد كرسى من الخشب الرخيص، الذى لفت نظره أكثر من بعض الكتب والجرائد التى تغطى المفرش الباهت، ربما ليس لشىء، إلا أنه لم يجرب الجلوس إليه منذ فترة طويلة، ولكن ليس هذا السبب ما كان يجذبه إليه، إنما لاعتقاده بأن إحدى قوائمه على وشك التحطم فى حالة إذا فكر فى الجلوس... ألم به طيف من السعادة لعثورة على حافز يزيد من رغبته فى النهوض، حيث أحس بدافع يجذبه نحو الكرسى ليختبر الجلوس إليه كى يتلاشى اعتقاده بأنه سيتحطم من ذهنه تماما، ولكنه سرعان ما تبدد تحت الضوء الذى بدأ يغشى الغرفة بالكامل ثم أخذ فى التعجب على وضعه هذا، وعما كان عليه فى السابق، حيث كان إذا نظر إلى النافذة ورأى بزوغ نور الفجر كان يقفز ناهضا كى لا يتأخر عن موعد عمله، بل وأيضا لدوامة على ذلك لسنوات طويلة.
بعد برهة خاطفة شعر بالتقزز والنفور من الوسادة التى كان يضع رأسه فوقها، وذلك لكثرة البلل إثر العرق الذى طالها ولرائحتها العطنة، أزاحها بعيدا وترك رأسه فى مستوى جسده الممدود بطول الفراش، كان نتيجة ذلك أن راحة قد شملته لم يكن قد ذاقها منذ فترة طويلة، تلك التى لم يكن يحتفظ لها بذكرى محددة، إلا أنه كلما أحس بها تذكر أنها قد ألمت به من قبل...!
أشياء كثيرة كانت ولا تزال يمكن أن تفعلها، غير أنه إذا فعلناها بقصد تبوخ نتيجتها ولن تكون ما نرجوه منها، فلذلك يتوقف الأمر على العفوية، غير أنه مع ذلك راجع نفسه واكتشف أن هذا لا يعتبر نظرية يمكن تطبيقها، فالصدفة هى النظرية الحقيقية فيما يشبه تلك الحالة، وبالأخص فى تلك الأمور التى لن نستطيع فيها الحكم بمقياس دقيق عليها كالإحساس الداخلى والشعور. فيما قد عثر فى ذلك على تعبير يمكن أن يحثه على فعل شىء، ما هو....؟ لم يستطع أن يفطن إليه..!.
كان لضوء الشمس الذى جعل الغرفة أكثر إضاءة مما كانت عليه منذ قليل، تأثير فى أن انهمك فى التطلع بجميع النواحى إلى أن ثبت نظره على لوحة كانت معلقة بالجدار عند يسار الفراش، وهذا ليس لمضمونها ولجمال ما يتضمنه منظرها، ولكن لنسيانه الوقت الذى ابتاعها فيه كما لو أنها نبتت من الجدار، غير أنه كان يتذكر تعلقه بها، مما أدخله ذلك فى مساومة طويلة مع صاحب الجاليرى، لم يكن فى نهايتها سوى أن دفع كل ما فى جيبه، ولم يترك له سوى جنيهات قليلة.. كان لشغف تلك الأيام مردود قوى فى نفسه من ناحية أن يتفاءل فى أن الحياة ستواصل سيرها من غير ما يشعر به الآن. عاد مرة أخرى يطمئن نفسه بأن ذلك شىء عارض لن يدوم طويلًا.
كان كل شىء فى تلك الفترة يبوح بالأمل والتفاؤل، على الرغم من أن المال كان شحيحًا.
كان يمشى مزهوا منفوخ الصدر كطاووس بعدما لف له الرجل اللوحة فى قماش أبيض، بينما الظلام فى وسط المدينة كان يهرب من جحافل الأنوار الباهرة الهابطة من أعمدة الأنارة. كان الوقت يقترب من التاسعة مساء عندها خطر له أن يعرج على المقهى لأجل كوب من الشاى، ولكنه عدل عن ذلك خوفا من تطفل الآخرين إذا رأوا ما يحمله، وخلاف ذلك أخذ يفكر فى قبول أو رفض عرض الزواج من ابنة أحد أقاربه الذى قدمه إليه أبوه.
لم يكن يتخيل أن يأتى يوم ويشاركه أحد فى وحدته التى كانت هى حصن الحرية الذى لا يريد أن يتحطم تحت مسئوليات أخرى. التعاسة عنده هو أن ينشغل بالتفكير فى أمر ما لأكثر من يوم، حتى وإن كان متعلقًا بشىء يجلب له المتعة واللذة، كموعد غرامى أو تمضية بعض الوقت فى البار، فطالما هبط من أمر لآخر بسرعة، ولكن بغير تخطيط مسبق وإنما شىء كان قد فطر عليه.... وما كان ثابتا فى حياته هو عمله كمحاسب لدى إحدى شركات الأغذية، حيث لم يتخيل قدرته على التوقف عن عمله هذا فى يوم ما، ليس حبا فيه وإنما من أجل النقود التى يحصل عليها من خلاله، التى تمسك بالحفاظ عليها أكثر من تمسكه بعادة الاستيقاظ عند السادسة صباحًا ليذهب.. ومع ذلك لم يستطع أن يجد تفسيرا لبقائه فى الفراش كل هذا الوقت غير عابئ بشىء كما لا يجول فى ذهنه أى خاطر مشغول بالقلق لتبعات هذا المسلك، حيث أضحى كل ما هنالك انغمار ذهنه ومخيلته فى نفس الوقت بسيل من الخيال القسرى فى حين عالمه الخارجى لا يتجاوز جدران تلك الغرفة.
وكان كل شىء مجرد عبث كان يفعله، وذلك بعدما تمر بذهنه تلك الأفعال التى كان يقوم بها بالأمس الغريب بحرص شديد كى لا يقصر فى شىء منها، بحيث لم يكن يتوقع أن يتخلى عنها بسهولةـــ كما الآن ــ أو بالأحرى لم يتخذ قرارا قاطعا فى تلك المسألة، وكل ما هنالك شىء عارض سرعان ما يزول ولا شىء آخر. عندها حاول استرجاع ما حدث له ليلة أمس، وبالأخص فى الساعة التى سبقت ذهابه إلى الفراش، فلم يكن باستطاعته أن يميز شيئا ذا بال، فكل ما وقع كان مألوفا له «مثل استيقاظه فزعا من صباح كل يوم خوفا من التأخر عن موعد العمل، ثم قطع الصالة إلى الحمام لمدة عشر دقائق، يقصد بعدها المشجب المعلقة عليه ملابسه، إلى أن يكون كل ما قام به قبل خروجه قد استغرق نصف ساعة فقط عقبها يكون فى الشارع ليقطع الطريق إلى موقف الأتوبيسات فى نصف ساعة فقط، وكان بعد وصوله إلى العمل يحاول أن ينهى ما معه من أشغال حسابية فى ساعتين لا أكثر، ليتفرغ لقراءة الجريدة التى كان يتخللها بعض الكلام فى أمور شتى. وبينما عبر كل حركة يقوم بها أثناء كل هذا الوقت لم تكن تضاهى تلك التى يقوم بها أثناء العودة، فقد كانت تتلخص فيها بنشوة ما كان يتخيله عن متعة الانفراد بنفسه بعيدا عن صخب أى شىء. وإن كان ينجذب إليه ويحبه، فليس معنى ذلك لجمال منظره الخارجى بل لديمومته ونشأته ومدى جدواه، وكأنما يعمل على حفريات الموجودات، فالمشهد الطبيعى الذى كان يشع بهاء وروعة ظل عكس ذلك فلا شىء سوى القتامة وازدحام الأرض به، ولذلك كان أقصى ما يسعده ويريح صدره هو الفراغ أو بالأحرى الأماكن الواسعة الخلاء، التى لا تقع عيناه فيها على شىء إلى أن تلتحم الأرض بأفق السماء، غير أن نظرة الاستنكار إلى الأشياء هى التى ما زال طعمها المر راسبًا فى قعر روحه، وما فتئ يتوالى الإحساس بها كلما أدام النظر فوجد الصمت فى مغزى وجودها والغرابة فى مسمياتها... كان قد تجاوز الوقت بعد الظهيرة بكثير، حيث بهتت قوة ضوء الشمس وتراجع قليلًا للوراء، وفى خلال ذلك الوقت كان قد غفا لحد ما، دون أن يستغرق فى النوم تمامًا فيما كان يرى بمخيلته حركته من بداية نهوضه من على الفراش والخروج من الغرفة، حتى انغمس كليا فى خمول غفوته، فتحول كل ما يراه إلى حلم متصل... الذى تضمن على كل ما يفعله فى يومه، أى أن يوما كاملا تلخص فى ساعتين فقط لا غير، هما تقريبا ما استغرقه فى غفوته تلك... اعتراه اندهاش شديد بسبب هذا وفكر فى مدى إمكانية تجاوز الأيام المقبلة بمخيلته إذا تسنى لها أن تتنبأ بالمستقبل، يكون فى وضوح وسهولة تذكر الماضى مهما انطوى وبعد. عندها حل الغروب دون ما كان يحمله له سابقا من ثقل وجثامة، وإنما كان لاشىء بداخله لحظتها سوى خواء يشمل ذهنه وارتخاء يكبل أطرافه.....بينما كان ما يهمه هو أن يلقى راحته على جانبه الأيسر بعدما تعب ومل من النوم أو ما كان يعتقد أنه راحة إذا وجدها يمكن أن يكون وضعه أفضل على كل حال. لم يعتمد على ذلك لدحر لامبالاته، وإنما على شىء آخر هو الوحيد القادر على جعله ينهض من الفراش. كان ذلك الشعور بالجوع، حيث اعتبره بمثابة الدافع القوى الذى سيحركه من رقدته تلك ما دام لم يقع شىء طارئ. ولكن وجد شعوره بالجوع كان موجودا مع بداية اليوم، غير أنه ليس هناك أكل محدد يثير فيه شهية الأكل بنفس مفتوحة، فمعدته خاوية إلا من ماء يتناوله من زجاجة يضعها بالقرب منه.. وانتابه هاجس يقر بأنه لا مثيل لحياة يعيشها الفرد معتمدا على الماء فقط، حيث ستيلاشى الشعور بالمعاناة وينتهى صراع من أجل القوت، وربما تتطهر النفوس من الأحقاد والمطامع. وبعد ثانية ما كان منه سوى أن بخس تلك الفكرة لأن العقل البشرى يغلب عليه سمة التدمير، التى فطر عليها ويخلق التنافس والتناحر من لا شىء، حيث ما لا مفر منه، فيجعل هناك ماء للفقراء وماء للأغنياء.كما أن الدول الأقوى ستحاول السيطرة على منابع الماء.
وعبر كل تلك المتاهات التى انفجرت فى مخيلته لم يكن قادرًا على مجابهة أن يحيا فى واقع يتطلب منه السعى ليس على نفسه فقط وإنما على آخرين، حتى وإن كان مقطوعا من شجرة، هم الذين كانوا متمثلين فى جميع من يقرعون الأبواب لتحصيل ثمن الفواتير أو من نذهب إليهم سواء للعلاج أو لشراء الطعام. فلن يجدى بأى شكل التمرد ـــ إذا كان كذلك ــــ بملازمة الفراش أكثر من هذا، فللجسد مطلبه وللحياة هى الأخرى مطالبها. ومع بعد المسافة بين القلق الذى كانت تمتلئ به نفسه كل صباح ـــ خوفًا من التأخر عن العمل ــــ بعدما أوشك اليوم على الانتهاء. كان قلقا يأتى فى الدقائق الأخيرة قبل أن يرن جرس المنبه ليعلن السادسة صباحًا، حيث لا داعى للتوجس من يوم واحد مر دون أن يفعل شيئا غير ملازمة الفراش، وإنما يمكن أن يتجدد ويتولد فى صباح اليوم الغد ويكون حافزا له على النهوض. عندها انفرجت أساريره لدى إتيان ذاك الخاطر على ذهنه فى تلك اللحظة فيما شعر بنوم ثقيل يرخى جفونه.
قصة قصيرة / أحمد إسماعيل عمر