الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

مصطفى بيومى يكتب ..في عيد ميلاد كوكب الشرق.. أم كلثوم في عالم نجيب محفوظ

أم كلثوم
أم كلثوم
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لا تقتصر أهمية أم كلثوم فى عالم نجيب محفوظ على تصدر عرش الغناء دون منافسة جدية أو مزاحمة، باستثناء الصراع مع منيرة المهدية فى بداية الظهور، لكنها تُعدَّ من أهم الشخصيات فى إبداع الكاتب الكبير، وربما تحتل المكانة الثانية فى عالمه الرحيب بعد الزعيم المقدس ذى السحر الخاص؛ سعد زغلول باستثناء أقلية ضئيلة، تقل كثيرا عن المعادين لسعد والرافضين لزعامته، فإن إجماعا كاسحا يتفق على الإعجاب بأم كلثوم والإقرار بتفردها، وهو إجماع يتجاوز صراعات الأجيال وخلافات الاجتهاد السياسى وتباين الأفكار.

لم تكن الساحة خالية عند ظهور أم كلثوم، ذلك أن المرحلة التاريخية، عشرينيات القرن العشرين، تشهد وجود عدد كبير من المطربين والمطربات الذين يحظون بشعبية هائلة، وهو ما ينعكس على عالم محفوظ، حيث يتبدى الولع بكثرة من العلامات الغنائية البارزة، فى مقدمتهم عبده الحامولى ومنيرة المهدية، لكن انتماء الأول للقرن التاسع عشر، وسيادة الثانية فى الربع الأول من القرن الجديد، يضفى على أم كلثوم مكانة خاصة تنبع من تفوقها المطلق اعتبارا من بداية الربع الثانى فى القرن، وهى الفترة التى تمثل الإطار الزمنى للغالبية العظمى من أبطال نجيب وشخوصه.


مع بداية الظهور، تطل منيرة المهدية لتمثل منافسا شرسا أكثر شعبية وانتشارا. أفراد شلة أطفال «المرايا»، يتذاكرون يوما مطربة «جديدة»، أم كلثوم، يقول عنها سرور عبدالباقي:

 - سمعتها فى فرح وأعتقد أن صوتها أحلى من صوت منيرة المهدية!

فـ «كبر علينا» ذلك وقال جعفر خليل:

صوت منيرة يعلو ولا يُعلى عليه.

وانتهره خليل زكى، عديم الاهتمام بالغناء، قائلا بوقاحته المعهودة:

لا تردد آراء أمك بيننا!


الأغلبية الساحقة من «الرأى العام»، ممثلة فى أطفاله، تنحاز إلى منيرة المهدية، ومقولة سرور، البريئة العابرة، تمثل «صدمة» ينم عليها استخدام الراوى لتعبير «كبر علينا»، واندفاع جعفر خليل للدفاع، ومبادرة خليل زكى بالهجوم الوقح!.

إذا كان هذا هو موقف الصغار الذين لم يتشكل وجدانهم ويكتمل وعيهم بعد، لكنهم يعكسون الشائع السائد فى عالم الكبار الناضجين، فإن الجيل الأقدم يبدو أكثر حذرا وحرصا فى التعامل مع الصوت الجديد.

فى «قصر الشوق»، يستشهد إسماعيل لطيف فى حواره مع كمال عبدالجواد بأغنية للمطربة الجديدة أم كلثوم: «الحقيقة إن قلبك موجع، إنه يغنى مع المطربة الجديدة أم كلثوم: أفديه إن حفظ الهوى أو ضيعا».

هذا الاستشهاد يمثل بدايات استيعاب الجيل الجديد لصوت أم كلثوم والاندماج معها، لكن جيل الآباء يختلف. فى الرواية نفسها، يستمع السيد أحمد عبدالجواد، أحد أبرز المولعين بالغناء فى عالم نجيب محفوظ، إلى أسطوانات المطربة الجديدة، ولا يبدى شيئا من الحماس والتعاطف: «أعارها أذنا حذرة مضمرة لسوء الظن، فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها».

 

تتشكل ذائقة الجيل الذى ينتمى إليه أحمد على أغانى عبده الحامولى ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي، وليس من الميسور إضافة الصوت الجديد الشاب إلى التراث المزدحم المستقر، ولا تجدى شهادة الزعيم سعد زغلول فى الإحساس بالصوت وتذوقه.

فى جلسة الشراب التى يتذكر فيها أحمد سماعه لأسطوانات المطربة الجديدة فى منزل صديقه محمد عفت، يسأل عفت العالمة العتيقة جليلة عن رأيها فى أم كلثوم، فتقول: «صوتها، والشهادة لله، جميل. غير أنها كثيرا ما تصرصع كالأطفال»!.


يبدو أن محمد عفت، الذى يقتنى الأسطوانات ويسمعها لأصدقائه، من المؤمنين بموهبة المطربة الصاعدة، وقادر على التخلص من مؤثرات تراثه الغنائى التقليدي، فهو يعود ليقول:

« - البعض يقولون إنها ستكون خليفة منيرة المهدية، ومنهم من يقول بأن صوتها أعجب من صوت منيرة نفسها!».

تتوالى ردود الفعل المحتجة الرافضة لمقولته الجريئة، وتهتف جليلة مدافعة عن مقام منيرة ومكانتها:

« - كلام فارغ!، أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟

وتقول زبيدة بازدراء:

- فى صوتها شيء يذكرنى بالمقرئين، كأنها مطربة بعمامة!

ويقول أحمد عبدالجواد رافضا، مقرا فى الوقت نفسه بشعبية الصوت الجديد وانتشاره:

- لم أستطعمها، ولكن ما أكثر الذين يهيمون بها، والحق إن دولة الصوت زالت بموت سى عبده».

البداية القوية لا تحول دون الانقسام والتحامل العنيف الجائر على الموهبة الثرية، ذلك أن توجهها يصطدم بالشعبية الجارفة لمنيرة المهدية وهيمنتها على عشاق الغناء. أحمد عبدالجواد يتخلص من الصراع وعبء الاختيار، فهو يرى البطولة المطلقة لعبده الحامولي، ولا متسع عندئذ لمنيرة وأم كلثوم معا!.

بعد استقرار أم كلثوم على العرش، فى سنوات تالية، يستمر الصراع بلا هوادة، فهذا الاستقرار لا ينفى وجود متحمسين إلى درجة التعصب الأعمى لكل ما هو قديم، فى مواجهة غلاة المحبين لأم كلثوم إلى درجة الهوس والتطرف غير المحدود.

فى «خان الخليلي»، يرى أحمد عاكف، المحافظ التقليدي، أن الغناء القديم هو الطرب الذى يأسر النفوس بغير عناء. وإزاء هذا التصريح، يتساءل سيد عارف فى إنكار:

« - وأم كلثوم وعبدالوهاب؟»

لا يملك أحمد إلا الاستمرار فى الدفاع عن رأيه، فيقول:

« - عظيمان فيما يرددان من وحى القديم، تافهان فيما عداه!».

ويأتى تعليق سيد متعصبا لا هوادة فيه:

«- أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل!».

عندئذ، لا يجد عاكف مفرا من الإقرار بعظمة «صوت» أم كلثوم، دون اعتراف مماثل بعظمة «فنها»!:

« - أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية!».

رأى غرائبى قوامه التناقض والتلفيق، بما يتوافق مع شخصية قائله. كيف يكون الصوت عظيما لا خلاف عليه، و«الناحية الفنية» تافهة ما لم تلتزم بالقديم؟، وهل يمكن الفصل بين الصوت وما يسميه بالناحية الفنية؟.

تسود أم كلثوم بلا منافس، وتتهاوى قلاع المدافعين عن القديم السابق لها.

فى «السكرية»، يعترف رضوان ياسين لعبدالرحيم باشا عيسى بأنه من «غواة» أم كلثوم، وكان ذلك فى مطلع الأربعينيات، ولا يجد الباشا، المحب للقديم من الغناء، مفرا من الخضوع لسريان الزمن وتحولاته: «جميل، لعلى من عشاق القديم، ولكن الغناء كله جميل، فأنا أحب ثقيله وخفيفه كما يقول المعرى».

وإذا كان أحمد عاكف، فى المرحلة التاريخية نفسها كما تقدمها «خان الخليلي»، يتفلسف ليميز بين الصوت وأصول الفن، فإن شقيقة الأصغر رشدى يبدو نموذجا للجيل التالى الذى يعشق أم كلثوم، ويرضخ لفنها وسحره وجاذبيته بلا مقاومة.

فى مطاردته للجارة نوال، يسر بالسينما التى تختارها محطة أخيرة فى رحلة المتابعة الطويلة، ومرد سروره أن السينما تعرض فيلم «دنانير» الذى تقوم أم كلثوم ببطولته: «وأدرك أن هذه المطاردة أتاحت له لذتين عزيزتين».

وهكذا تتساوى لذة الاستماع إلى أغانى أم كلثوم فى الفيلم، مع لذة المغامرة العاطفية الجديدة فى حياته.

داخل صالة العرض، يبقى رشدى مخلصا لعاطفته الغزلية، فيتجول بصره بين البناوير والألواج والمقاعد، مزجيا تحيات المودة إلى الصدور والنحور والثغور والمعاصم، لكن هذا كله ينتهى ببزوغ صوت أم كلثوم: «فما أن يغرد الصوت الإلهى بأغنية النبع «طاب النسيم العليل» حتى غفل عن الوجود».

لأن أم كلثوم تمارس هذا التأثير على العاديين من الناس الذين يحبون الغناء ويذوبون فيه، فإن ممارسى الفن، مع اختلاف مواهبهم وحظوظهم فى الانتشار، يقرون بتفوقها ويستسلمون بلا مقاومة لشهرتها ولا يحملون بتجاوزها. غاية الطموح هو الاستمرار والتواجد فى ظل سيادتها، ولعل هذا ما يفسر أن مدعى الفن على صبرى، فى «بداية ونهاية»، على الرغم من غروره وتعالمه الكاذب، لا يصل به التهور النرجسى إلى ادعاء منافسة أم كلثوم أو التشكيك فى مكانتها، فهو يخاطب تابعه الخائب حسن كامل فى مرارة وتهكم: «ماذا يُسمع الآن فى الراديو؟. لا شيء. هذا زعيق فارغ وليس بغناء. ولو كانت المحطة تراعى وجه الفن وحده لكنت المذيع الأول بعد أم كلثوم وعبدالوهاب».

بعد سطور قلائل، ينهال «نقده الفنى» على محمد عبدالوهاب، ما يكشف عن اعتقاده بأنه أولى منه بالغناء فى الإذاعة، لكنه لا يتعرض لأم كلثوم مقرا بأنه دونها.

عندما يصل على صبرى إلى محطة اليأس من الغناء، متفرغا لإدارة القهوة والاتجار فى المخدرات، يعترف بأن الراديو محتكر بمعرفة أم كلثوم وعبدالوهاب وشرذمة من المطربين المختصين بالنشاز، ومن الجلى أن أم كلثوم فوق النشاز المنسوب إلى الشرذمة غير المسماة!.

لعل «ميرامار» هى أكثر روايات نجيب محفوظ تجسيدا للمكانة الرفيعة التى تحتلها أم كلثوم فى الحياة المصرية، وتعبيرا عن الدور الذى تلعبه فى الحراكين الفنى والاجتماعى معا.

العلاقة بين سكان البنسيون لا تتجاوز حدود التعارف الشكلى التقليدي، حتى تقترب الليلة الأولى لموسم أم كلثوم، فيعرف الصحفى العجوز عامر وجدى أنهم سيسهرون حول الراديو: «وأنها ستكون ليلة طيبة عامرة بالشباب والغناء».

لا تقتصر السهرة على الاستماع للغناء والاستمتاع به، ذلك أنها أيضا أداة تواصل اجتماعى وتعاون إنسانى وتحرر من وطأة الروتين والملل، وعلى هذا التوجه يجمع السكان المختلفون فى كل شيء تقريبا.

حسنى علام، المندفع المستهتر اللامبالي، المسكون بالشهوات والمجون، يقول عن السهرة ذات الخصوصية المتفردة: «ليلة أم كلثوم ليلة متوجة حتى فى بنسيون ميرامار. أكلنا وشربنا وضحكنا. خضنا فى كل موضوع حتى السياسة».

ويقف الشيوعى المأزوم منصور باهى فى خندق واحد مع حسنى، على الرغم من التناقض الكامل بينهما، فى الإحساس بطبيعة السهرة الاستثنائية: «ليلة أم كلثوم، ليلة الخمر والطرب، فيها تزحزح النقاب عن أشياء من خبايا النفوس».

ولا يختلف الأمر بالنسبة للانتهازى الوصولى سرحان البحيري، ذى الشخصية المغايرة تماما لشخصيتى حسنى ومنصور:

«وكانت ليلة أم كلثوم».

نازعنى المزاج إلى قضائها فى بيت على بكير لنتلقى السماع فى جو هادئ جدير به، كما دعانى رأفت أمين إلى السماع فى مسكنه، ولكنى فضلت– بعد تفكير– السهر مع أسرة البنسيون لأوثق علاقتى بأفرادها».

الفوارق الشاسعة بين الثلاثة أكثر من أن تُعد أو تُحصى، لكنهم يتفقون على خصوصية الليلة وطقوسها المميزة.

ويمتد التأثير الطاغى لأم كلثوم ليطول غير المصريين. مدام ماريانا، صاحبة البنسيون يونانية الأصل، لا تغير المحطة الإفرنجية التى تدمن سماعها إلا ليلة أم كلثوم. يسألها عامر وجدى، بعد وصوله إلى البنسيون بغرض الإقامة الدائمة: «ألا نغير المحطة الإفرنجية؟»، وتأتى إجابتها واضحة سريعة حاسمة لا تردد فيها أو مجاملة: «عدا ليلة أم كلثوم فلا محطة غيرها!».

فى ليلة أم كلثوم، يستمع حسنى علام مع النزلاء الآخرين، وسرعان ما يعجز عن التركيز بسبب قلقه وملله وتوتره الدائم، ويدهشه أن المدام تحب أم كلثوم وتصغى إليها فى اهتمام: «ولعلها لاحظت دهشته فقالت:

- «سمعتها عمرا طويلا».

وفى مناسبة أخرى، يعلق حسنى على طواف ماريانا بحجرات البنسيون حاملة المبخرة: «إذن فأنت تحبين أم كلثوم وتؤمنين بالبخور؟».

أى شيء يبقى من الانتماء الغربى لليونانية العجوز، وهى التى تحب أم كلثوم والبخور؟.

الاستماع إلى كوكب الشرق والاستمتاع بها هو القاعدة فى عالم نجيب محفوظ، وخلاف ذلك هو الاستثناء النادر الذى لا يُقاس عليه ولا يُعتد به. إنها مصدر السعادة والبهجة كما فى المقطع الأول من قصة «الميدان والمقهى»، مجموعة «الفجر الكاذب»: «يتهادى صوت أم كلثوم من الراديو ليسعد صباح السامعين».

يشكل صوتها جزءا أصيلا فى نسيج اللوحة المعبرة عن إيقاع الحياة المصرية، مندمجا فى منظومة الصباح والشباب والإشراق والصفاء. ولأنها مصدر السعادة والبهجة، وعلامة التحقق والانتعاش، فإن المعاناة فى سبيلها محتملة، وإذ تشكو اليونانية ماريانا:

« - عيب ثومة أنها تبدأ فى وقت متأخر جدا!

يعلق عامر وجدى كأنه ينفى العيب أو يبرره:

- ولكن الشباب نجحوا فى التغلب على آلام الانتظار».

رشدى عاكف، فى «خان الخليلي»، يغفل عما حوله ليستمتع بأم كلثوم فى أغانى فيلم «دنانير»، لكن سرحان البحيرى لا يستطيع أن يتجاهل زهرة وهو يستمع، ولعل انشغاله بالحب هو ما يفسد عليه استمتاعه «المعتاد»، أو على حد تعبيره: «لم أستمتع بأم كلثوم كالعادة، ولا رددت معها بعض المقاطع، ولكن نشواتى تفاعلت كسيال كهربائى مع زهرة».

الفارق بين رشدى وسرحان هو الفارق نفسه بين مغامرة عاطفية لم تكن قد وصلت إلى حافة الحب بعد، وبين حب ملتهب يعانى من أزمة حقيقية معقدة، وهذا الفارق هو ما يؤدى إلى انتصار أم كلثوم على نوال، وتراجعها أمام زهرة!.

غياب استمتاع سرحان يمثل الاستثناء النادر فى علاقته مع أم كلثوم، وهو ما يمثل مظهرا من مظاهر «الشذوذ» عند شخصية أخرى تستبدل بالنواح والعديد أغانى أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب.

من مظاهر «الشذوذ» التى يتسم بها عبدالمنعم الكاشف، فى قصة «صباح الورد»، وتعبر عن شخصيته المضطربة: «أنه مولع بنواح الندابات أكثر من أغانى أم كلثوم وعبدالوهاب».

فى هذا السياق، يبدو التشبه بأم كلثوم هو الأداة الوحيدة المتاحة لتقريب المعنى الذى تعجز اللغة العادية عن استيعابه.

فى «السكرية»، لا تجد العالمة المتقاعدة جليلة ما تعبر به عن مكانتها القديمة المندثرة، إلا أن تقول لكمال عبدالجواد: «كنت فى أيامى كأم كلثوم فى أيامك الكالحة».

المراهنة هنا على معرفة كمال اليقينية بالمكانة التى تحتلها أم كلثوم فى الثلاثينيات والأربعينيات، وبالقياس يمكن تخيل مكانة جليلة وشهرتها فى الزمن القديم.

تعود جليلة إلى ماضيها المزدهر المندثر مستعينة بأم كلثوم، ويلومه مستقبل أخريات على ضوء ما تمثله المطربة المتربعة فوق القمة، حالمات بمجدها والتطلع إلى خلافتها. النجاح الذى تحققه المطربة الشابة وداد صبرى، فى قصة «صباح الورد»، يذكر الراوى بما كان يقوله أبوها لأبيه فى زمن قديم، فى سياق مديح ابنته الموهوبة: «هذه البنت ستخلف أم كلثوم على عرش الغناء».

وهل من نموذج يُحتذى يفوق أم كلثوم؟!.

لأن الفكاهة تمثل ملمحا رئيسا فى عالم نجيب محفوظ، فإن أم كلثوم لا تنجو منها، لكن: أى نمط من الفكاهة يُمارس معها وتندمج فيه؟ إنها الفكاهة المنطلقة من الإقرار بعظمتها وتفردها، والمستثمرة لمكانتها غير المتنازع عليها.

المفترض فى المحامى الإخوانى محمد حامد برهان، فى «الباقى من الزمن ساعة»، هو نفوره من الغناء لأسباب فكرية تتعلق بعقيدته السياسية، ذات الجذور الدينية، المعادية للفن، لكن هذا لا يمنع الإخوانى العتيد من توظيفه لأغنية كلثومية شائعة للسخرية من جمال عبدالناصر، وليس من المطربة، فهو يقول ساخرا عن «نزهة» اليمن التى تنقلب إلى متاهة: «أسمعت ما يُقال عن أغنية أم كلثوم «أسيبك للزمن»؟. يُقال إن الأصل هو: أسيبك لليمن!».

وفى «السراب»، يعود الدكتور أمين رضا من بعثته الأوروبية ساخطا متذمرا متمردا، مبشرا بالانحياز إلى الحكومات الفاسدة المعجلة باشتعال الثورة، بديلا للحكومات الشعبية التى لا تستطيع أن تفعل شيئا، وعندما يُسأل:

« - ألا تجد فى مصر ما يستحق إعجابك وتقديرك؟

يدير عينيه البراقتين فى الحاضرين ويقول مبتسما:

- بلى.. أم كلثوم».

وبعد انتهاء سهرة أم كلثوم فى «ميرامار»، يقول منصور باهى للعجوز عامر وجدى، المنتمى إلى الماضى البعيد:

« - هل سمعت فى ماضيك صوتا كهذا الصوت؟

فيجيب العجوز باسى:

- إنه الشيء الوحيد الذى لا نظير له فى الماضي»!

أما طلبة مرزوق، الإقطاعى الرجعى المعادى لثورة يوليو، الذى يملأ الرواية بسخرياته اللاذعة من النظام الناصرى وقراراته، فإنه يستمع إلى أم كلثوم فى السهرة نفسها بعمق، ويهمس لحسنى علام ساخرا: «من نعم الله أنهم لم يصادروا أذنى!».

فى النماذج السابقة جميعا، فكاهة مرتبطة بأم كلثوم، لكنها لا تسخر منها ولا تتهكم عليها. المحامى الإخوانى يستثمر الأغنية دون المساس بصاحبتها، للسخرية من عبدالناصر وورطته فى حرب اليمن، والدكتور أمين رضا يتهكم على واقع وطنه المتخلف من خلال أم كلثوم، القيمة الوحيدة الجديرة بالاحترام، وبذلك يسخر «من خلالها»، ولا «يسخر منها». الأمر نفسه يتحقق مع عامر وجدى، الذى ينتمى إلى زمن سابق لظهور أم كلثوم وممتد إلى ما بعد سيادتها وتألقها. إذا كان التعصب للزمن القديم يفرض عليه أن يحب كل ما فيه، فإن خصوصية أم كلثوم تتبدى فى أنها «الظاهرة الوحيدة» التى لا نظير لها فى ماضيه، أما مرزوق فيسخر من مصادرات وتأميمات الثورة، ويحمد الله على أنهم لم يصادروا أذنيه، وكأنهما تقبلان المصادرة، حتى يستمتع بالاستماع!.