الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عودة مي زيادة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
من منّا لم يقرأ لـمى زيادة أو عنها؟ من منّا لم يسمع عن هذه الأديبة الأريبة التى ملأت دنيا الفكر والثقافة وأضاءتْ سماءَ الأدب العربى فى القاهرة وبيروت وباقى الحواضر العربية والمهاجِر فى العقود الثانى والثالث والرابع من القرن الـ ٢٠، فى وقت لم يكن فيه للمرأة حضور يُذكَر فى عالم الفكر والأدب والثقافة؟ 
فى هذا السياق يأتى النصّ الأخير للروائى واسينى الأعرج «ليالى إزيس كوبيا» (الجزائر م وف م ٢٠١٧) ليعيد هذه الشخصية إلى الواجهة ويبعث النِّقاشَ مجدَّدا، كما يشير إلى ذلك العنوان الفرعى للرواية «ثلاثمائة ليلة وليلة فى جحيم العصفورية» حول حلقة مهمّة من حلقات حياتها هى فترة إدخالها مستشفى الأمراض العقلية فى بيروت الشهير باسم: العصفورية، ومكوثها فيه بعض الوقت ومواقف معارفها وأصدقائها الكُثّر من هذا الحدث ومنها، خصوصا من كبار رجال الفكر والثقافة والأدب والإعلام حينذاك، وما أثارته هذه المواقف فى نفسها من آلام ضاعفت أوجاعَها وأسقامَها وجعلتها تبتعد شيئا فشيئا عن عوالمها وأجوائها السابقة.
اشتغل واسينى على ما يُفتَرَض أنّه مخطوط ضائع من تراث الأديبة ليومياتها فى المستشفى ومشاعرها وأحاسيسها فى تلك الفترة الصّعبة من حياتها وما عانَتْه فيها من مرارة الظلم والاضطهاد والاحتجاز التعسُّفيِّ والنكران من الأهل والعائلة والمجتمع الطبى والأصدقاء، خصوصا ممّن يُفتَرضُ أنّ بينها وبينهم «عيش وملح».
يستغلُّ واسينى تقنية «المخطوط» التى غدت كلاسيكية، فيجتهد فى مقدّمة طويلة بعنوان «غيمة النّاصرة» فى رسم مسار متابعة (أو مطاردة) المخطوط المفترَض: القاهرة بيروت روما الناصرة إلخ، مصوِّرا كيفية القبض عليه وتحصيله فى القاهرة بعد جهود مضنية ومفاوضات عسيرة، محاولا تحفيزَ «أثر الحقيقة» فى نفس قارئه إلى حدِّ إعطائه رقما فى المكتبة الوطنية الفرنسية، ما يوحى بإمكانية تصفُّحه والاطِّلاع عليه لمن يرغب فى ذلك، ما يجعلُ كثيرين يعتقدون ذلك حقّا.
الجديد فى ما كتبه واسينى عن «مى» أنه يحاول اعتمادا على ما جمعه من مادّة وافرة عنها لم يترك فيها شاردة ولا واردة مما هو معروف عنها متقمِّصا شخصيتَها ومتحدِّثا بلسانها إعادةَ تركيب جزئيات تلك الفترة بالأحداث والتواريخ بتفصيلاتها الدقيقة وشخوصها الحقيقية منها (والمفترضة التى استدعاها السياق الروائي) بمرارتها وقسوتها على الكاتبة، وبرع فى استغلال السّرد بضمير المتكلِّم الذى يوحى- فى بعض الحالات- بصدقية المروِى مُضْفِيا عليه طابَع الحميمية والبوح والاعتراف، مُحدِثا بذلك ما اشرنا إليه فى الفقرة السابقة من أثر للواقع، حتّى أنّ كثيرا ممّن قرأوا النصّ إلى حدِّ الآن اعتقدوا أنّهم إنّما يقرأون ما كتبتْه المعنيةُ شخصيا، ولا أخفى أنّنى كنت أحدَ هؤلاء فى بداية الأمر. 
من المشاهد القوية فى الرواية بعد وصف عذاب المستشفى ومعاناته وإصرار الطّاقم الطبى على جنونها وتواطئهم فى ذلك مع عائلتها وتجاهلهم إصرارَها على العكس، تكرار تصوير ردّة فعل «مي» (فى النصّ) على مواقف زملائها فى الحرف والقلم، خصوصا ممّن كانوا قريبين منها أيام عِزّها ومنهم كان يبلور فى ذهنه مشاريع حياة معها، وخيبةَ أملها فيهم، فوضعتْ بينَها وبينهم سياجا سميكا لم تخترقْه محاولاتُهم إعادةَ الأمور إلى ما كانت عليه قبلا، ولم تتوانَ فى استقبالهم ببرودة واشمئزاز واضحين بعد عودتها إلى القاهرة، أو ردِّ كثير منهم بجفاء على غرار مكالمة طه حسين، التى نقرأها فى الرواية (٢١١/٢١٢)، لذا كانت شهادَتُها فيهم عنيفة وصادمة تؤثٍّر على الصورة المثالية/الطوباوية، التى ترتسم لهم فى أذهان كثير من قرائهم ومُريديهم «كان قلبى مقهورا من جيش الأصدقاء هناك.. ما قرأته من تصريحات العقاد، طه حسين، سلامة موسى وغيرهم جرح قلبى وقسمه إلى قسمين... أية حداثة وأى مثقّف ملتزم»؟ 
هنا يواجهُنا السؤال الصّعب: هل نُنكِر على الأديب والمفكِّر الذّائع الصِّيت آثارَ ازدواجيتَه، أى حقيقتَه فى حياته الخاصّة وبنيتَه النفسية ومِزاجيته والصورةَ (الهالة) التى ترتسمُ له فى أذهان القراء والمُريدين ووقوعه تحت وطأتِها أحيانا كثيرة؟ ومن ثمّ نستغرب هذه التصرفات ونُصدَم بها أحيانا؟
نصٌّ جدير بالقراءة برغم أنّه لم يخلُ من هفوات لغوية بسيطة نحسبها على السّهو والعجلة.