الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

استقصائي البوابة نيوز.. «الموت عبر وسيط» تحقيق يكشف مافيا بيع «المرضى» لمستشفيات «بير السلم»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عالم «تجار الموت»، عبر سماسرة لا يعرفون الرحمة، ومرضى يموتون بأجر، ورقابة معدومة من المسئولين عن الصحة فى مصر، «البوابة» اقتحمت هذا العالم فى رحلة البحث عن غرفة رعاية مركزة فى المستشفيات الحكومية، لتكشف فى تحقيقها الاستقصائي؛ العالم السرى لتجارة الرعايات المركزة فى مصر، يقوده شبكات من العاملين بالمستشفيات الحكومية، الذين يستغلون حاجة المرضى إلى غرف الرعايات المركزة، وبيع «المرضى» لمراكز ومستشفيات غير مرخصة تحت «بير السلم» نظير 3 آلاف جنيه للحالة و10% من قيمة الفاتورة!!


رعايات المستشفيات الخاصة أو الموت.. الخيار المر

بعين مملوءة بالدموع كان يحبسها بين الحين والآخر، روى سعيد محمد، ابن محافظة المنوفية، رحلته بين أروقة المستشفيات الحكومية للبحث عن غرفة عناية مركزة لوالدته، التى تعانى من التهابات شديدة فى البنكرياس.

"أمى مش بتنام الليل بسبب ألم البنكرياس".. بهذه الجملة بدأ سعيد محمد، حديثه عن الرحلة المأساوية للبحث عن سرير شاغر بالعناية المركزة بالمستشفيات الحكومية، مستطردًا، لم أترك بابًا إلا وطرقته، ولكن دون جدوى، بحثت فى أغلب المستشفيات الحكومية، ووحدات رعاية وزارة الصحة على الرقم «١٣٧» لتوفير مطلبنا وكانت الإجابة: "عفوًا لا يوجد أسرة وقوائم الانتظار كاملة العدد"

"أمى بتضيع منى ومش عارف أعمل إيه، لفيت على معظم مستشفيات الحكومة بالمنوفية والقاهرة حتى أجد مكانا فى غرفة رعاية، ولكن دون جدوى"، مضيفًا الشاب الثلاثيني: فى مستشفى طنطا المركزى ذهبت لأجد غرفة تنقذ أمى من الموت وتخفيف آلامها، ٢٤ ساعة بالتمام والكمال انتظرتها والدتى بطوارئ مستشفى جامعة طنطا، فى انتظار الموت أو غرفة رعاية، أيهما أقرب، حتى باتت المستشفيات الخاصة هى طوق النجاة الوحيد أمامى، ولكن أسعار الرعايات بها كانت العائق الأكبر أمام نقل والدتى إليها، فالسرير يتجاوز الـ٧ آلاف جنيه لليلة الواحدة.

ويستطرد، "أمى بتموت أمام عينى ومش عارف أعمل إيه"، وأضحت حالتها من سيئ لأسوأ نتيجة الانتظار، إلى أن تواصلت ببعض المسئولين بمستشفى جامعة طنطا عن طريق «واسطة»، وكانت المفاجأة بفتح غرفة رعاية مغلقة داخل المستشفى، وبها ٤ أسرة ولا يوجد بها حالات، وخلال دقائق تم تعقيمها ونقلت إليها والدتى على الفور.

ويُكمل: «تحدثت مع أحد أفراد طاقم التمريض، وعلمت أن غُرف الرعايات المغلقة بالمستشفى محجوزة بأسماء الأطباء، يتم دخول المرضى إليها بـ«الواسطة والمحسوبية أو الرشوة»، والمريض الذى لا يركن لأحد الثلاثة يصبح أمامه طريقين، إما رعايات المستشفيات الخاصة أو الموت». حالة والدة الشاب الثلاثينى، سعيد، واحدة من آلاف الحالات التى تبحث يوميًا عن غرفة رعاية مركزة بالمستشفيات الحكومية دون جدى ليكون الموت المحقق هو نهاية الرحلة.


سماسرة بمعهد ناصر للتجارة فى الرعاية المركزة

بعد جمع المعلومات المبدئية عن هذا العالم الخفى من داخل بعض المستشفيات والمراكز الطبية، بدأت "البوابة" رحلتها للكشف عن "بيزنس ومافيا" غُرف الرعايات داخل المستشفيات الحكومية، استعانت فيها بحالة مريض موثق لها التحليل الطبية والأشعة التليفزيونية.

البداية كانت من أحد أهم الصروح الطبية فى القاهرة توجهنا لـ(مستشفى معهد ناصر)، وأمام هذا المبنى الضخم شديد الحراسة، عبرنا البوابات متجهين إلى قسم الطوارئ، كان المشهد قاسيًا، فالمرضى متراصون على سرائر متحركة لا يفصل بينهم سوى ستائر ذات اللون الداكن، وآخرون على جوانب الحوائط، ينتظرون خلو أحد أسرة الطوارئ، وأصوات آلامهم تنتشر تملأ الآذان، يمر بينهم طاقم التمريض لمراعاتهم الطبية ومحاولة تخفيف أوجاعهم.

وفى آخر الطرقة التى يقبع فيها المرضى، يوجد مكتب استقبال الطوارئ، يتواجد به طاقم التمريض وطبيب شاب، توجهنا إلى مسئول الطوارئ وأخبرناه بحاجتنا لغرفة عناية مركزة، عارضين ما بحوزتنا من فحوصات وتقارير طبية لمريضنا الذى يحتاج لغرفة عناية مركزة، لتأتى إجابته؛ بأن هؤلاء المرضى جميعهم على قوائم الانتظار، توسلنا إليه ليجيب طلبنا، فأشار علينا بالدخول لمكتب مسئول الرعايات، والجالس بإحدى الحجرات المنفصلة ‏عن الطوارئ.

ذهبنا إليه وسألناه عن حاجتنا لسرير رعاية لمريض يعانى من جلطة، وعرضنا ‏عليه الأشعة والفحوصات من على هاتف ذكى (موبايل محمول) فأجاب: "للأسف يا أستاذ كان نفسى أخدم، لكن العدد مكتمل وهناك قائمة انتظار بالطوارئ".. وسألنا ما الحل؟ فأجاب: عليكم البحث فى المستشفيات الخاصة أو الانتظار حتى خلو سرير.

عدنا مرة أخرى لطبيب الطوارئ، لعله يلبى مقصدنا، لتكون الإجابة ذاتها، مشيرًا للمرضى المنتظرين بالطوارئ، فالجميع يتربص للفوز بسرير رعاية أو الموت، أيهما أقرب، وبين ‏الآهات والآلام ‏يحاول ذويهم التحدث مع الأطباء لعل من مجيب.‏

فى طريقنا لمغادرة قسم الطوارئ بـ"معهد ناصر" كانت هناك عين تراقبنا دون أن نراها، ولكننا كنا ننتظرها، ‏فى هذه اللحظة لحق بنا أحد الأشخاص، "يا أستاذ.. يا أستاذ.. أنتوا محتاجين غرفة رعاية مركزة؟" لنجيب باهتمام "شديد نعم.. ‏فى أسرع وقت، فلدينا مريض يحتاج غرفة رعاية على الفور".

عرفنا بنفسه على أنه الدكتور محمد، رغم أن ملابسه الزرقاء تدل على أنه أحد طاقم التمريض العاملين بالاستقبال، وبعد الاطلاع على الأشعات والتقارير الطبية التى تشير إلى حالة المريض الذى يحتاج إلى غرفة رعاية، بدأ يقول إنه سوف يرسلنا لأحد المستشفيات الخاصة الذى به أسرة رعاية مركزة وبأسعار مخفضة.. أدار لنا ظهره مرتكنا لأحد ‏جدران الحائط، ليتواصل هاتفيًا مع أحد الأشخاص ويدعى الدكتور "حسن"، ليبلغه أنه سوف يرسل إليه ‏حالة تحتاج لغرفة رعاية مركزة، والتفت إلينا وأخذ بيانات الحالة ليرسلها للشخص الذى يهاتفه شارحًا له تفاصيل الحالة، استدار لنا وكتب على ورقة بيانات وعنوان المستشفى والطبيب حسن، لنشكره على مساعدتنا وتبادلنا أرقام الهواتف وانصرفنا مسرعين لنذهب بالحالة إلى المكان المتفق عليه، حينها أيقنا الاقتراب من أبواب "العالم ‏الخفي" لـ"سماسرة الرعايات" داخل أروقة المستشفيات الحكومية.‏


٢٥٠٠ جنيه للوسيط.. و10% من الفاتورة

وفى طريقنا للمكان المتفق عليه، تخابرنا هاتفيًا مع أحد مصادرنا فى هذا التحقيق، والذى يعمل بأحد المستشفيات وكان "وسيط رعايات" سابق، بهدف معرفة النسبة التى يتقاضاها "السمسار" مقابل إرسال الحالات للمستشفيات؟ ليجيبنا بأن "الوسيط" يحصل على ٢٥٠٠ جنيه بمجرد دخول ‏الحالة المستشفى، و١٠٪ من قيمة الفاتورة التى يدفعها المريض، موضحًا أن معظم هذه الأماكن ليست مستشفيات؛ وعبارة عن شقق عشوائية غير مرخصة ولا تصلح للرعايات، وأغلب العاملين بها وأصحابها ليسوا أطباء، وإنما اتخذوها طريقا للحصول على الأموال وإن كان ذلك على حساب المرضى.


"المستشفى" شقة متهالكة دون أطباء والمرضى يتساقطون

٤٠ دقيقة استغرقها الطريق حتى وصلنا إلى مستشفى الروضة، بمنطقة وسط البلد، وفى شارع الشيخ ريحان، بجوار قصر عابدين التاريخى، يقع المستشفى، لافتة تعلو إحدى البنايات وسهم فى مدخل يشير إلى (مستشفى الروضة الخاصة للرعايات وحضانات الأطفال والحالات ‏الحرجة)، وفى مدخل العمارة العشوائى صعدنا بواسطة مدخل خاص، كان أحد العاملين يجلس أمام باب مغلق، ‏سائلين عن الدكتور حسن، فأجاب: "أنتوا من طرف حد؟ أجابنا: نعم.. من طرف دكتور محمد بمعهد ناصر.. ليقوم الرجل بفتح الباب ويوجهنا لصعود الدور الأول".‏

كان المكان عبارة عن شقتين داخل هذه البناية، "مدخل متهالك للغاية، وسلم ضيق يصعب صعود شخصين متجاورين، وأسطوانات أكسجين مخزنة تحت السلم، وأكياس القمامة تتعثر فيها كلما تصعد"، كان هذا المشهد من الداخل حتى بلغنا الدور الأول، ‏وهو عبارة عن "شقة متواضعة ‏للغاية، جدرانها مطلية بأردأ أنواع الطلاء"، لم نجد أى أطباء أو ممرضين، حتى مر ‏علينا أحد العاملين دافعًا بـ«ترولي» متواضع للغاية، سألناه عن الدكتور "حسن" ليرد أنه فى طريقه لنا بعد لحظات.

تسللنا لإحدى الغرف المسماة بالرعاية المركزة، لنجد سيدة مسنة على أحد الأسرة المتواضعة، معلق لها زجاجة محلول على الحائط بجوار السرير ولا توجد أى أجهزة بالغرفة، وتجلس بجوارها ابنتها لنسألها عن رأيها فى الخدمة المقدمة لهم، لتجيبنا بأنهما يستعدون للمغادرة، بعد أن شاهدوا سوء الخدمة، وأن هناك من خدعهم وأوهمهم أن المستشفى به رعاية مجهزة؛ والوضع كما روته لنا- لم تكمل حديثها حتى قاطعتنا إحدى العاملات موجهة سؤالها: إنتو عايزين حد؟.. سألناها عن الدكتور «حسن» ‏فأجابت: "آه موجود سيحضر حالًا". ‏حضر الدكتور "حسن"، وكانت هيئته تدل على أنه ليس بطبيب، وملامح وجهه تؤكد أن عمره ‏لا يتعدى العقد الثالث، عرضنا عليه الفحوصات الطبية الخاصة بالمريض، مؤكدين أن المريض على موعد الوصول بسيارة الإسعاف، تفحصها قال: "أول ‏ما تيجى الحالة طلعوها" وتركنا وذهب.‏

‏وفى إحدى الغرف تجلس السكرتارية وأبلغتنا، أن التكلفة المالية لليوم ‏الواحد ٣ آلاف جنيه، بخلاف الأدوية، ويجب تسديد الحساب كل يوم قبل العاشرة صباحًا، بالإضافة ‏إلى ترك مبلغ مالى لـ٣ أيام تحت الحساب بالإدارة المالية أى بما يعادل ٩ آلاف جنيه.‏

 


 الدكتور "حسن".. مؤهل متوسط 

كان علينا الذهاب بعيدًا عن المستشفى، ظنا منا أن إحدى الحالات من الممكن أن تروى لـ"الدكتور حسن" حديثنا معهم، الأمر الذى يعرضنا لمخاطر؛ ولكن كان علينا إتمام المهمة والتحقيق من المعلومات، تحدثنا مع أحد شاغلى المحلات التجارية بأسفل "مستشفى الروضة"، عن مستوى الخدمة لنحضر أحد أقاربنا المريض، ليؤكد أن هذا الكيان ليس مستشفى، وأنه تحدث مشاجرات شبه يومية بين ‏العاملين والأهالى بسبب تدهور الحالات، ومطالبتهم بدفع أموال طائلة، بالإضافة إلى وفاة الكثير، هذا ما ‏أكده أيضا أحد المسعفين المنتظرين بجوار العقار لنقل المرضى بعد تدهور حالتهم.‏

وبسؤال "الجار" عن الطبيب مالك المستشفى "الدكتور حسن"، أكد أنه ليس طبيبًا ولا يوجد أطباء ‏بالمستشفى، وفى حالة تدهور حالة المريض يتم استدعاء أطباء من الخارج، ونصحنا بالانصراف ‏فورًا، والبحث عن مستشفى آخر، وهذا ما أكده أيضًا حارس العقار.

 


ضحايا "مستشفى الروضة

كان علينا إيجاد حيلة تمكننا من الخروج من "مستشفى الروضة"، تظاهرنا بالذهاب لنصعد بالمريض من سيارة الإسعاف، وانصرفنا إلى الخارج، وأسفل العمارة التى تكمن ‏بها المستشفى، وجدنا سيدة تجلس، يبدو أنها إحدي الضحايا، اقتربنا منها وسألناها عن مستوى الخدمة فى ‏المستشفى، لتجيبنا أن زوجها أجرى إحدي العمليات التى أصيبت بتسمم نتيجة الإهمال، ‏مؤكدة أن زوجها يمكث بالمستشفى منذ أكثر من ثلاثة شهور دون جدوى. معللة: "بياخدوا ‏فلوس كتير عشان تعملوا حسابكم".‏

تركنا السيدة.. ولحقنا بأسرة فى مدخل العقار كانوا يستقلون سيارة "ميكروباص"، ومعهم سيدة عجوز تجلس على كرسى متحرك وتعانى من حالة إعياء شديدة، ‏وبحوزتهم ورقة بها بيانات "مستشفى الروضة والطبيب حسن"، مؤكدين أن طبيبا بأحد المستشفيات العام، هو الوسيط، بعد فشل محاولتهم فى العثور على سرير رعاية شاغر بالمستشفيات الحكومية.

قصصنا عليهم حال "مستشفى الروضة" بهدف ‏إنقاذهم من مقصلة "الدكتور حسن"؛ لكنهم صعدوا آملين فى إنقاذ مريضهم.‏

لتعقبهم حالة أخرى لمريضة فى العقد الثالث، ودار الحديث بيننا كما كان مع الحالة السابقة، لتأكد أن أحد ‏العاملين بمستشفى الفاروق، توسط لهم لوجود سرير رعاية شاغر لطفلة تبلغ ٤ أعوام، وأضافت أن تكلفة السرير هنا مرتفعة للغاية تتجاوز سبعة آلاف جنيه فى اليوم. وبعد لقائنا بهذه الحالات أيقنا حينها أننا أمام ‏مافيا منظمة تستغل حاجة المرضى ونقص غرف الرعايات بالمستشفيات، لتقوم ببيعهم للموت لأماكن عشوائية وغير مرخصة نظير ‏عمولات بصرف النظر عن تدهور حالة المريض أو حتى قتله. 


مسعف.. سمسار رعاية 

قررنا الانصراف، وعلى بعد أمتار من "الروضة"، وجدنا إحدي سيارات الإسعاف، ويبدو أنها كانت تنقل حالة جديدة للمستشفى، فذهبنا إلى المسعف وتعرفنا عليه ويدعى "علي"، لنكرر عليه قصتنا الوهمية بحاجتنا لغرفة رعاية، فسألنا ما الذى أتى بنا لمستشفى الروضة؟ ومعرفتنا بـ"الدكتور حسن" أخبرناه أن أحد ‏العاملين بـ"معهد ناصر"، هو الوسيط، وسأل: ما سبب عدم وضع الحالة؟، تهربنا من الإجابة بأن الشكل العام للمستشفى غير مريح والخدمات ‏بالمكان لا تناسبنا ونحن نسعى لإيجاد مكان أفضل. عاد ليسأل ما المنطقة التى تسكنون بها فأجبناه "الدقي"، (طلبكم موجود.. عندى مستشفى أنضف من هنا، ومن بابها)، لأخبر أحد الأشخاص أنه سيرسل له حالة تحتاج لرعاية ووقف يأخذ بيانات المريض ويبلغها هاتفيا لشخص يدعى "محمود"، علمنا أن مهنة "سمسرة الرعايات الخاص" لا تقتصر على الأطباء أو الممرضين فقط؛ بل تشمل أيضا المسعفين. وصف لنا طريق المستشفى الذى يقع بشارع السودان بمنطقة الجيزة، و يسمى ‏‏"مستشفى الإعلام" ليستقل"محرر ومصور البوابة" السيارة نحو الهدف الثانى "مستشفى الإعلام".‏ 

ثلاثون دقيقة، استغرقها الطريق حتى وصلنا للمستشفى، وعلى باب المكان سألنا عن الشخص الذى تحدث إليه "على المسعف"، لنجد شخصًا فارع الطول عريض القامة، قابلنا بالترحيب أخبرناه بحاجتنا لغرفة رعاية، عارضين عليه الأشعات التى بحوزتنا، صعد بنا للدور الأول، وعلى ‏باب إحدي الغرف انتظرنا حتى أمرنا بالدخول للطبيب المتخصص الذى كان يجلس على كرسى متحرك داخل ‏غرفة ضيقة للغاية، وبها أحد أجهزة الحاسوب القديمة.‏

‏ عرضنا عليه التقارير الطبية، ومن ‏خلف نظارته المقعرة أخذ يشاهدها ويتفحصنا، أظهرت ملامح وجهه أنه أوجس منا خيفة وريبة من أمرنا، حينها ‏تظاهرنا باللهفة فى حديثنا حتى لا يفتضح أمرنا، فأخذ يشرح لنا العوامل التى أدت لسوء حالة المريض ‏وأسباب الذبذبات التى تصيبه، وطالبنا بإحضار الحالة فى أسرع وقت لعمل اللازم قبل تدهور الحالة، توجهنا له بالشكر ‏وانصرفنا تحت حراسة «محمود» إلى الدور الأول حيث يقع قسم الاستقبال.

تحدثنا مع موظف الاستقبال، عن تكلفة الحالة يوميًا ليجيب أن تكلفة اليوم الواحد بغرفة الرعاية لا يقل عن ٥ آلاف جنيه، بخلاف العلاج والإشراف والعمليات، وفى هذه الأثناء جاء اتصال تليفونى من - على المسعف (السمسار)- بهدف الاطمئنان على وصولنا للمستشفى ليضمن النسبة من المستشفى وعمولته، أجبناه بأن كل شيء على ما يرام.


إقرار الموت 

طلب منا موظف الاستقبال تحرير إقرار ببيانات الحالة، والمسئول عنها، بالإضافة إلى ترك مبلغ مالى (العربون) لنفاجأ بنص الإقرار بالتالي: (إنه فى حالة تعرض المريض لمضاعفات أو خطر على حياته بعد أو قبل إجراء أى عملية فالمستشفى غير ‏مسئول)، فسألت موظف الاستقبال، كيف أوقع على الإقرار والمريض لم يأت ولم يتم الكشف عليه؟ فأجاب: إنها ‏إجراءات روتينية، يجب أن تتخذ مع المرضي.

حررت الإقرار على اعتبار أن المريض أخ لوالدتى (خالي)، ومكثنا بالاستقبال نفكر عن حيلة تمكننا من الانصراف دون أن يلاحظنا أحد، متظاهرين بإجراء اتصال تليفونى بسيارة الإسعاف التى تنقل مريضنا، وأنها بحاجة لدليل ‏لمقر المستشفى، ويبدو أن السائق ضل الطريق، انصرفنا فى هدوء دون أن يلاحظنا أحد. وبعد مرور ساعتين، اتصل "محمود" مسئول مستشفى الإعلام بصديقى المصور ليسأله عن الحالة وسبب تأخرها عن الحضور، ليجيب بأن المريض حالته تدهورت ولا نستطيع نقله حاليًا. انتهت الرحلة ولم تنته معاناة مرضى الحالات الحرجة، فى رحلة البحث عن غرف الرعايات داخل أروقة المستشفيات، والتى أغلبها يدركها الموت قبل الفوز بسرير رعاية مركزة.


إحصائيات وبيانات

كشف تقرير الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء الصادر فى ٢٠١٧، أن عدد المستشفيات الخاصة المرخصة يبلغ "١١٧٥"، بينما عدد المراكز الطبية ٣٨٤٧، ويبلغ عدد أسرة الرعاية المركزة بالمستشفيات ٤٤٦٤التخصصية، بينما عدد أسرة الإقامة بالمستشفيات العامة، ٣٤٩٥٥ ويبلغ عدد الوحدات الصحية بأسرة ٦٦٠ بالقطاع الحكومى و١٠٠٢ للقطاع الخاص، وعدد الأسرة بالوحدات الصحية بالقطاعين الخاص والحكومى ١٢٤ ألفًا و٣٦١ سريرًا، ويوضح التقرير أن عدد المرضى المترددين على العيادات الخارجية بالاستقبال بالمستشفيات العامة بلغ ٥٩ مليونًا و٣١٥ ألفًا و٥٢٦ مريضًا، بينما بلغ عدد المرضى الذين ترددوا على العيادات الخارجية والاستقبال بالمستشفيات التخصصية ١٢ مليونًا ٦٥٥ ألفًا ٨٥٢ مريضًا، فيما قال التقرير إن حجم الإنفاق على الصحة ٤٢ مليارًا ٤٠١ مليون فى ٢٠١٤_٢٠١٥، فيما بلغ ٤٤ مليارًا ٩٥٠ مليونًا ٢٠١٥_٢٠١٦.

 


مُستشار الوزير لشئون الرعايات: سرير لكل 7 آلاف مواطن

داخل أروقة وزارة الصحة فى غرفة مدون على بابها "غرفة متابعة الأزمات"، واجهنا مستشار وزير الصحة لطوارئ المستشفيات والرعايات، الدكتور شريف وديع، بما كشفناه فى أزمة الرعايات، فى البداية لم ينكر "وديع" ‏مشكلة ‏الرعايات المركزة فى مصر، مؤكدًا أن المشكلة تكمن فى ضآلة أعداد الأسرة بالغرف، حيث إن الأسرة الموجود ‏مقسمة حسب نسبة المرضى، وهى سرير لكل ‏سبعة آلاف مواطن، ومع زيادة تعداد السكان ليصل فى الأخير لـ١٠٤ ملايين نسمة، ‏يظل احتياجنا ‏يتراوح لـ١٤ ألف سرير رعاية مركزة على مستوى الجمهورية

وقال "وديع" إن نسبة العجر ‏فى الأسرة النوعية الخاصة بالرعايات تتراوح من ٢٥ لـ ٣٠٪، فيما يتم توفير الأسرة للمرضى ‏بنسبة تتراوح من ٣٠ إلى ٣٥ ٪، لافتًا إلى أن نسبة الاستجابات لطلبات الرعاية المركزة وصلت لـ ‏‏٦٥ ٪، وفى شهر أكتوبر لعام ٢٠١٧ وصلت نسبة الاستجابة لـ٦٦.٧٪ من طلبات المرضى.‏

غلــــق الـــــــرعـــــايـــــــات

وأرجع "وديع" سبب إغلاق الرعايات فى بعض المستشفيات الحكومية، إلى نقص الأطباء وممرضى الرعايات، لافتًا إلى أنه فى الفترة الأخيرة تمت ‏إعادة تشغيل معظم الرعايات المغلقة حتى وصل عدد الأسرة لـ٣٥٠٠ سرير تعمل بكامل طاقتها كمرحلة أولى.‏

أما المرحلة الثانية، فتم افتتاح ٥٢٢٨ سريرًا تابعًا لوزارة الصحة، بالإضافة إلى الأسرة التابعة لوزارة التعليم العالى ‏تجاوزت٤٠٠ سرير، وما يخص العلاج الحر ٤٥٠٠ سرير، ليصبح لدينا أعداد ليست بقليلة ‏نقترب منها للنسبة العالمية، بالإضافة إلى مشاركة القطاع الخاص بنسبة ٤٠٪ بحوالى ٤٥٠٠ سرير ‏رعاية مركزة.‏

وبشأن نقص وحدات الرعاية المتخصصة، قال مستشار وزير الصحة: إنه فى السابق كان هناك نقص ‏ملحوظ فى العديد من الرعاية المتخصصة، فوحدات السموم فى مصر كانت ٣ وحدات جامعية، و٣ ‏أخري بوزارة الصحة، أما الآن فلدينا ٢٣ وحدة سموم، وكذلك وحدات الحروق لم تكن بالجودة الكافية ‏المطلوبة، بالإضافة إلى افتتاح ٥٢ وحدة، وكذلك رعايات المخ والأعصاب والحميات والصدر والغيبوبة ‏الكبدية.‏

وتابع "وديع" أن الخط الساخن "١٣٧" لطوارئ وزارة الصحة، يستقبل يوميًا١٠٠ حالة، على مستوى القاهرة فقط، ‏ويكون لدينا ١٤٠ سريرًا شاغرًا؛ ولكن غير قادرة على تقديم الخدمة، والسبب يرجع للنوعية المطلوبة من أسرة الرعايات، مؤكدًا أن الوزارة تعمل على تحسين احتياجات النوعية وسد العجز.‏

وعن ضآلة أسرة الرعايات فى المحافظات، أكد أن هناك عجزا كبيرا، فضلا سوء توزيع فى بعض المحافظات فى وجه ‏بحرى والصعيد، ونعمل على تحسين الخدمة وتكافؤ التوزيع، فمثلًا محافظة البحيرة كان لديها سرير لكل ٢٧ ألفًا، والآن لديها ‏١٢ ألف سرير خلال عامين‏. ‏

واستطرد مستشار وزير الصحة لشئون الرعاية والطوارئ، أن نسبة العجز بأسرة الرعايات ‏‏١٠٠٠ سرير بنسبة تتراوح من ٢٠ لـ٢٥ ٪، وتعد هذه النسبة ضئيلة حسب قوله؛ مرجعًًا المشكلة ‏الكبرى للرعايات فى نوعية الأسرة، قائلًا: هناك نقص واضح جدًا فى ‏أسرة الرعايات المركزة للأطفال ‏والتى تتراوح أعدادها ما بين ١٠٠ و ١٢٠ رعاية، بينما احتياجاتنا تتراوح ما بين ‏‏٨٠٠ حتى ١٠٠٠ ‏سرير، ويوجد لدينا ٧٠٠ سرير فى رعاية الأطفال على مستوى الجمهورية.

وعندما واجهنا الدكتور شريف وديع بما كشفناه فى هذا التحقيق، من أعمال مخالفة للقانون وبيع المرضى لمستشفيات تحت بير السلم وغير مرخصة، قال إن هذه الممارسات غير إخلاقية و‏مرفوضة جملة وموضوعًا، ويجب أن من يحصل على أدلة أو يعلم بذلك من المواطنين أو المرضى أن يبلغنا بهذه الأعمال، لنقوم بالتحقيق فى هذه ‏الكوارث، وأن ممارسى هذه الأعمال يجب مثولهم أمام النيابة العامة وإدارة العلاج الحر بالوزارة.


رئيس الإدارة المركزية للعلاج الحر: يجب محاسبة كل المتورطين فى هذا "الفساد"

 تتولى الإدارة المركزية للمؤسسات الطبية غير الحكومية والتراخيص بوزارة الصحة مسئولية التفتيش الدورى على المنشآت الطبية التابعة للقطاع الخاص، بعد منحها التراخيص، ومن بينها ٤ آلاف و٤٦٤ سرير رعاية داخل مراكز ومُستشفيات القطاع الخاص، وذلك استنادًا إلى القانون رقم ٥١ لسنة ١٩٨١ المُعدل بـ١٥٣ لسنة ٢٠٠٤، حسبما أكد الدكتور على محروس، رئيس الإدارة المركزية للعلاج الحر والتراخيص الطبية بوزارة الصحة. وأضاف محروس: أن إدارة العلاج الحر تقوم بالتفتيش على مُستشفيات القطاع الخاص مرة واحدة على الأقل سنويًا، وفى حال تسلم شكوى بخصوص أى مُستشفى أو مركز أو عيادة، يتم إرسال لجنة من الإدارة، للتأكد من حصول تلك المنشأة على التراخيص وحقيقة الشكوى لكتابة التقرير اللازم ورفعه، وبناءً عليه يتم تحديد الجزاء المُناسب، سواءً بإغلاق جزئى كالرعايات أو العمليات أو التعقيم، أو سحب تراخيص تلك المنشأة فى حال إثبات خطأ جسيم، أو الحبس الذى قد يصل إلى ٣ سنوات وتغريمه من ١٠ إلى ٢٠ ألف جنيه.

وتابع، أما فى حالة أن يتم إعادة هيكلة للمكان وتجاوز الأخطاء السابقة، فيتم تشكيل لجنة لعمل تقرير للتأكد أن جميع السلبيات تم تجاوزها، ويتم فتح المنشأة أو الجزء المغلق مرة أخرى ومتابعته من قبل إدارة العلاج الحر بالوزارة بالتفتيش كل فترة على المنشأة


وعن التفاوت بين أسعار تكلفة أسرة الرعاية داخل المُستشفيات، والتى تتراوح فى بعض الأماكن بين ٣ و١٥ ألف جنيه أحيانًا، قال "محروس": إن كُل منشأة مُقيدة بلائحة أسعار تحددها بالتعاون مع إدارة العلاج الحر، وتلتزم بها وفقًا للقانون، وفى حال مُخالفتها لتلك اللائحة، يقع عليها جزاء فورى من إدارة العلاج الحر، كما أن بعض المُستشفيات والمراكز تُحدد أسعار لائحتها بناءً على موقعها الجغرافى ومُقدمى الخدمة فيها من الأطباء ودرجة الخبرة، فهناك استشاريون رعاية أو طبيب عام، غير أن بعض أسعار الأسرة يكون مُبالغًا فيها فى بعض الأحيان، وحال ورود شكاوى بخصوص الأسعار، يتم التحقيق فيها على الفور، وإذا ثبت أن المنشأة لا تلتزم بالأسعار المحددة، يتم توقيع العقوبات عليها حسب نص القانون.

وأردف رئيس الإدارة المركزية للعلاج الحر؛ أما بالنسبة للتعامل مع "القطاع الخاص" فإنه شريك أساسى للقطاع الحكومى فى تقديم الخدمة الطبية، خاصة أنه يُقدم حوالى ٦٠ إلى ٧٠٪ من الخدمة الطبية المقدمة للمرضى فى مصر، فلا بد أن يُراعى أسعار خدماته الطبية المُقدمة للمريض المصرى بشكل عام، وخصوصًا أسعار أسرة الرعاية داخل مُستشفياته ومراكزه، مضيفًا أن قانون التأمين الصحى الجديد لن يُفرق بين مواطن يحصل على خدمة طبية فى القطاع الخاص أو فى المُستشفيات والمراكز الحكومية.

وجاء تعليق "محروس" على ما ورد فى استقصائى "البوابة" من رصد لسماسرة تحويل المرضى، ممن فى حاجة قصوى لسرير رعاية، من المُستشفيات الحكومية إلى الخاصة وبعض الأماكن غير المرخصة، وإطلاعه على مقاطع الفيديو التى تثبت "سماسرة الموت" الخاصة بتلك الأماكن.

قال محروس: "فساد.. لا بد من الإبلاغ عن سيارة الإسعاف وموظف معهد ناصر وكل من تورط فى تلك الكارثة، ونحن بدورنا سنقوم بالتفتيش على المُستشفيات والمراكز الوارد ذكرها فى التحقيق، إذا كانت غير مرخصة سيتم التعامل معها فورًا، وفى حال أنها حاصلة على ترخيص سيتم وفقًا للقانون تحديد الجزاء المناسب على كُل منها".

وأضاف: "المُستشفيات التى تم رصد المُخالفات بها، ستتحول إلى عيادات تخصُصية فقط، وفقًا للقانون الجديد ١٥٣ لسنة ٢٠٠٤، كما أن العجز فى أسرة الرعاية يدفع عديمى الضمير إلى استغلال المرضى، وهو أمر غير مقبول، وسنتصدى له جميعًا من خلال إبلاغ إدارة العلاج الحر بتلك المصائب، وأيضًا من خلال تكثيف التفتيش الدورى على مراكز ومُستشفيات القطاع الخاص من قبلنا".

أما بخصوص المراكز والمُستشفيات التى تحوى على سريرى رعاية أو ثلاثة فقط، بالمُخالفة للقانون، أوضح "محروس" أن التعديلات التى تم إلحاقها بقانون ٥١ لسنة ١٩٨١ فى عام ٢٠٠٤ نصت على: (أنه لا يقل عدد أسرة الرعاية على ١٥ سريرًا داخل المُستشفى الواحد)، غير أنه لم تُحدد أيضًا طريقة التعامل مع المُستشفيات التى تحوى ٣ و٤ أسرة رعاية فقط قبل صدور القانون الجديد.

وأؤكد أن إجراءات التعامل مع الشكاوى الواردة بخصوص أسرة الرعاية تبدأ بتشكيل لجنة للتأكد من تراخيص المُستشفى أو المركز، ومدى تطبيقها لمعايير مُكافحة العدوى، والتأكد أيضًا من حصول كل العاملين بها على تراخيص مزاولة المهنة من نقابة الأطباء، وفى حال إثبات أى خلل فى تلك الشروط، يتم سحب التراخيص لحين توفيق أوضاعها بالإضافة إلى اتخاذ الإجراءات المُناسبة ضد صاحبها.

وأشار "محروس" إلى أن إدارة العلاج الحر بوزارة الصحة تمكنت خلال الشهرين الماضيين، من إغلاق العديد من المراكز الطبية التى ثبتت عليها المُخالفات بناءً على شكاوى مواطنين، بالإضافة إلى تحويل ٢٧ مركزًا طبيًا إلى عيادات، منوهًا إلى أن مصر بها أكثر من ١٠٠ ألف مُنشأة طبية مُرخصة، بالإضافة إلى عشرات المُستشفيات والمراكز والعيادات فيما يطلق عليه "بير السلم"، وهو الأمر الذى يُصعب من إحكام السيطرة والتفتيش الدورى الكامل على كُل المُستشفيات.

واختتم رئيس الإدارة المركزية للعلاج الحر: مؤخرًا عرضنا على وزير الصحة تعديلات جديدة على قانون ٥١ لسنة ١٩٨١ والمُعدل بـ ١٥٣ لسنة ٢٠٠٤، من شأنها السيطرة على مُخالفات المنشآت الطبية الخاصة؛ حيث تصل فيها العقوبة المالية إلى ١٠٠ و٢٠٠ ألف جنيه بدلًا من ١٠ و٢٠ ألف جنيه، وعقوبة الحبس تصل إلى مدة ٥ سنوات بدلًا من ٣، وننتظر عرضها على مجلس النواب خلال الفترة المُقبلة لإقرارها.



لمشاهدة التحقيق مصورًا اضغط على هذا الرابط