الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الـزفة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استكمالا لما بدأناه فى الحواديت السابقة أو التى من المفترض أن تكون سابقة، إلا أننى بعد مرور أعوام اكتشف أنها تصلح لأى زمان.. فحرس الضريح لم يتغيروا، وفى رواية أخرى لم ولن يتغيروا.. منذ هروبى من «شرطة الكُتّاب» واختبائى فى «عشة الخالة نعيمة»، واستنجادى بجدتي، التى لكى تعيد إليّ روحى المعنوية اصطحبتنى لأشاهد «زفة» أحد الأولياء فى قريتنا.
خرجنا من حوش الدار على صوت الميكروفونات هذا قبل أن تحولها الأوقاف فى عصرنا إلى بكماء، عربة «كارو» يجلس أعلاها رجال ونساء وأطفال، المنشد يردد أهازيج، يتقدم أهالى القرية إليه.. يدفعون قروشا.. فيصيح الفاتحة لفلان ابن فلان.. وهكذا.. حول «الكارو» صفين من الرجال الأشداء يحملون الأعلام والسيوف يتمايلون على وقع الإنشاد، يلتقى الصفان فى المؤخرة عند رجل ضخم يقال له الشيخ «صفوان»، عرفتُ فيما بعد أنه كبير حراس الضريح، الآمر الناهى الذى يحرك «الزفة» بإشارة، وقد أخذ العهد من أحد أبناء الولى الذى لا يظهر بين العوام؛ لأنه إن ظهر سيتدافعون وسيتقاتلون لتقبيل يده وستقع خسائر كبيرة فى الأرواح.
يجثون الحراس على ركبهم واحدًا تلو الآخر، ويضعون السيوف على أكتافهم فى تلاحم، وفجأة يقفز رجل كان يُدعى عبدالمعبود، يسير على حافة السيوف واحدًا تلو الآخر دون أن تنزف قدماه، يتبع كل قفزة من قفزاته تهليل وتكبير وابتسامة من «صفوان».. الذى يومئ لـ«الزفة» لتتحرك قليلا.. يتصدرها أكابر القرية ومتعلموها وكأنها عرس أحد الأعيان.. بائعو الزمامير والطرابيش والترمس يشقون الأرض ويظهرون فى كل مكان.. تصفيق حار مع كل فقرة من الفقرات.. الأقدام تحجب عنى الرؤية فتحملنى جدتى على كتفها.
يحمل رجل ابنه ويضعه على الكارو ويأخذ الميكروفون من المنشد يعطيه للغلام، يتكلم كلاما غير مفهوم، أصرخ لجدتي: «أنا عايز اتكلم فى الميكروفون»، تضحك ولا ترد.. يعاود رجل آخر الأمر مع ابنه، فأعاود أنا الطلب من جدتي.. ثالثة ورابعة وأنا لا أمل من تكرار الطلب نفسه.. وإذ بها تصرخ: «يا بنى مش هينفع دول قرايب الحرس.. وواخدين الأمر من صفوان».. لا أفهم ما قالته وأرد عليها: «طب خدى الأمر يا ستى إنتى كمان من صفوان.. أنا هقول فى الميكروفون أحسن من العيال كلها يا ستي، أنا كمان حافظ نشيد»، تربّت على كتفى وتقول: «يا بنى لو بالشطارة مكنش حد غلب.. إحنا بنتفرج وبس على الزفة من بعيد ونحط فى صندوق النذر أو ننقط فى الزفة زى ما أنت شايف ولا نقول ليه ولا إزاي».
فى كل مكان كنت أرى تلك «الزفة» وأشاهد نفس الصفوان، وأرى ما قالته لى جدتى يتحقق مع الغلمان.. لكن حقيقة لم أعد مشغولا بمن يمسك الميكروفون.. لأنى اكتشفت مع مرور الوقت أن بقاءهم لا يدوم.. يبقى الراصد والمشاهد الذى يسجل ويتعلم ويكتب التاريخ، هؤلاء الصغار، الذين لو طاوعتهم جداتهم وطلبت الإذن من صفوان، لخاصمتهم الكلمة وفرت من أياديهم الأقلام، وأصبحوا كـ«عبدالمعبود» فى الزفة يتقافزون على السيوف، ثم إذا ما فقدوا الحركة والمتعة ركلتهم أقدام الحراس.. فلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم فلا يأخذ الهبات إلا خدام الضريح.. ونحن أسياد أنفسنا.