الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

نجيب عوض يكتب: حين يتوجب علينا ممارسة السياسة

نجيب عوض
نجيب عوض
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كلا، معركة القدس ليست معركة كرامة عربية ولا معركة معنويات، لا يتم استعادة الاعتراف بالحق الفلسطينى بالقدس الشرقية من خلال المظاهرات والبيانات والانتفاضات والشجب والغضب على وزن أغنية «وين الملايين، الشعب العربى وين، الغضب العربى وين»، قضية القدس مسألة سياسية استراتيجية صرفة تحتاج لعقل استراتيجى يقرأ الحدث فى سياق المعطيات الأوسع ويسعى لإيجاد وسائل لإيصال الصوت لصاحب القرار والعمل على جعل هذا الأخير يعيد حساباته وقراءاته السياسية العملياتية. السياسة لا مكان فيها للعواطف والكرامات والعزة وما إليه.
السياسيون يجب أن تكون قلوبهم ميتة ومشاعرهم وأحاسيسهم فى الثلاجة. لهذا أصر أفلاطون فى كتابه «الجمهورية» على أن الفلاسفة هم من يجب أن يُعنى بمسألة السلطة والإدارة، فالفلسفة تعنى بالعقل المحض وبتجلياته المعرفية فقط.
الأهم من مسألة القيام بردود أفعال حيال قرار الإدارة الأمريكية الأرعن والغبى والشرير الأخير هو التفكير بوسائل واحتمالات لجعل صناع الأفكار والقرار يستمعون للصوت العربي. وأود هنا أن أقترح ما يلى حول هذه المسألة:
١- لم يذكر الإعلام الغربى أوالعربى معطيات كثيرة عن رد فعل الشارع الإسرائيلى على قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وموقفه من هذه الخطوة وارتداداتها على عملية السلام برمتها ومشروع الدولتين. هل الشارع الإسرائيلى العام مع تلك الخطوة ويقف خلف نشوة حكومته المتطرفة بها، أم أنه لا يؤيدها ويعتقد بغالبيته أو بنسبة كبيرة منه بأنها خطوة سترتد بأثمان غالية على إسرائيل نفسها؟ لا يبدو لى أن هناك اكتراثا من قبل لا العرب ولا الرأى العام بتلك الناحية. أعتقد أن تقصى مواقف وردود أفعال الشارع الإسرائيلى حول تلك المسألة، لا بل وربما العمل على تحفيز الصوت المعارض لها فى داخله يجب أن يكون خيارًا استراتيجيًا على العرب التفكير به بجدية وربما العمل على بناء معطياته على الأرض. العقل السياسى يقول إن على العرب وعمقهم الإسلامي، وليس الفلسطينيين فقط، أن يتواصلوا الآن مع الأطياف غير اليمينية والأصولية المؤيدة للحكومة الإسرائيلية داخل إسرائيل وربما يحاولون أن يطوروا علاقة ما معها كى يبنوا فى النتيجة خطابًا مشتركًا مسموعا حول السلام وإمكانياته فى الصراع المذكور وضرورة تمسك العالم بتأييد مقبول لمشروع الدولتين. مهم للعرب والمسلمين أن يبنوا تحالفًا ما مع الأطياف غير المتطرفة والمعتدلة والداعية للسلام فى الشارع الإسرائيلى نفسه، فهذا الصوت الإسرائيلى صوت مسموع فى الأوساط اليهودية والغربية حول العالم وحول مراكز صنع الأفكار والقرار. وإذا ما كان الشارع الإسرائيلى اليوم يحوى أصوات معارضة لقرار الإدارة الأمريكية وللفرح الحكومى الإسرائيلى بها، فالتعاون مع مثل هكذا صوت لنقل الصوت الفلسطينى والعربى حول تلك المسألة سيعطى للأخير مصداقية وأذنًا صاغية فى الأوساط الفكرية والسياسية الغربية لما للصوت اليهودى فيها من تأثير ولما للصوت الإسرائيلى الداخلى أيضًا من تأثير على اللوبيات اليهودية فى عواصم صنع القرار. إن حاول العرب والمسلمون هذا قد يجعلون العالم يؤمن بدعوتهم لجعل أورشليم مدينة للجميع ويقنعوه عبر تماهى صوتهم مع أى صوت إسرائيلى معارض لخطوة ترامب بأنهم لا يكرهون اليهود ولم يعودوا يعتقدون أن وجود فلسطين مرهون بمحو إسرائيل عن الخارطة.
٢- لا يجب الرد على نشوة حكومة نتنياهو وقرار ترامب المتهور الأخير من خلال إما شعارات «مثل القدس عاصمة أبدية لفلسطين» وإما « القدس مدينة للمسلمين والمسيحيين». تلك الشعارات ما هى إلا رد على تطرف بتطرف موازٍ ورد انفعالى عاطفى على موقف انفعالى عاطفى مضاد. ما هذا إلا تأكيد للرأى العام العالمى للصورة التى يقدمها اللوبى الإسرائيلى المتطرف والتى تدعى زيفًا بأن شعب إسرائيل يجد نفسه مضطرًا لاتخاذ مواقف متطرفة وراديكالية فى صراعه مع الفلسطينى لأنه يجد نفسه فى مواجهة مع شارع مقابل متطرف وراديكالى ولا يحمل سوى الكراهية لكافة شعب إسرائيل دون تفريق بين فئة وأخرى. من الأفيد سياسيًا أن تكون الشعارات المواجهة لقرار ترامب الأخير هو إصرار على أن القدس مدينة للجميع ولجميع الشعوب معًا؛ مدينة للمسلم والمسيحى واليهودى أيضًا. هناك معركة رأى عام عالمى يجب على العرب والمسلمين أن يلعبوها بذكاء وعمق بصيرة، كى يتجنبوا الصور النمطية المشيطنة لهم التى تقفز إلى مخيلة الغربى مباشرةً حين يحدث أى شيء يتعلق بالصراع العربي-الإسرائيلي.
٣- وأخيرًا، يجب على العرب والمسلمين أنفسهم أن يفهموا بواقعية طبيعة الإدارة الأمريكية الجديدة التى تجمع الكثير من نقاط نجاحها وصورتها أمام الرأى العام الأمريكى على لعبة خلق عوالم افتراضية وإثارة غبار الجدل والفوضى الفكرية فى الرأى العام كى تحرف أنظاره عن ورطاتها المتزايدة ورائحة صفقاتها وارتباكاتها الكثيرة التى باتت تهدد حكم الرئيس ترامب نفسه. هذا لا يعنى أن نقلل من حجم وجدية تداعيات قرار ترامب الأخير . ولكن لا يجب أيضًا أن يجعلنا هذا نقفل باب التواصل مع الإدارة الأمريكية والحديث معها بعقل بارد وفكر استراتيجى كى يتحول هذا القرار إلى ورقة تفاوض نستفيد منها للحصول على مكسب ما فى منحى آخر يعنى الشعب الفلسطينى ومصيره ويخدمه بالدرجة الأولى.
على العرب أن يدركوا أنه فى عقل صناع الأفكار والقرار «مصير الفلسطينيين» قضية ما زالت قائمة، أما «فلسطين» فلم تعد موجودة على الإطلاق لا فكريًا ولا سياسيًا ولا جغرافيًا.
على العرب أن يتعاملوا مع هذا الواقع البشع والفظيع شاءوا أم أبوا. وإلا لن تضيع القدس فقط، بل سيضيع الفلسطينيون أنفسهم، نعم، السياسة بشعة... ولكننا بحاجة لها كى نخلص الفلسطينيين.