الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التواصل الاجتماعي والإلكتروني.. المتعة والخطر

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عصرنا هو عصر الفعل التواصُلي بامتياز. 2 مليار شخص. ذلكم هو الرقم الذي بلغه عدد مستعملي الفيسبوك شهر جوان/يونيو الماضي. عدد لم يكن –من دون شكّ- يدور بخلد مؤسِّس هذا المنتدى الاجتماعي –مارك زوكربرغ وفريقه فيما بعد. بدأ شبكة اتصالٍ صغيرةٍ محليةٍ بين طلبة هارفارد ثم شبكة تواصُلٍ بين طلبة الجامعات الأمريكية قبل أن يغزو العالَم ويصبح المنصّة التواصلية الأولى بعد ضمِّه الماسنجر إلى جناحه، وثالث موقع إلكتروني من حيث الاستعمال والانتشار بعد موقِعيْ جوجل ويوتوب. أصبحت هذه الشبكة الرهيبة وأخواتها (تويتر خصوصا ولينكلدن وواتساب وفايبر...) وكلّ وسائل ووسائط التواصُل الإلكتروني أخطبوطا يمسك بتلابيب البشرية مجُسّدا "الروابط الجماعية" الجديدة التي حلّت شيئا فشيئا محلّ "العلاقات التعاقدية" الاجتماعية "التقليدية" فقضت على الوحدات الاجتماعية الكلاسيكية من أسرةٍ وأقارب وقبيلةٍ وشلّةِ أصدقاء الحيّ والمدرسة/الجامعة وجيرانٍ وجماعةِ الزملاء في محلّ العمل، وما إلى ذلك من وحداتِ انتماءٍ ومجاورةٍ مكانيةٍ واقعيةٍ، لتنشئ هذا العالَمَ الافتراضي الذي ينتشل الأفراد شيئا فشيئا من واقعهم ومحيطهم الفِعلي ويقضي على الحدود والفواصل الجغرافية والثقافية/اللغوية والاجتماعية وغيرها، ويقضم شيئا فشيئا من سلطة السُّلط والقِوى التقليدية. ليقيم عالَما مُوازيا يسمِّيه بعضُهم "افتراضيا" وما هو كذلك، بل واقعي حقيقي هو أيضا، ليصبح في النهاية مُخدّرِا أدمنه الناس من كلّ الشرائح الاجتماعية والثقافية والعُمَرية، فأحسّوا معه بمتعة وحرية أمدّتهم بشيء من الراحة يكون بعضُهم قد افتقدها في دوامة الحياة ومشاغلها.
لكن إذا كانت لوسائل ووسائط التواصُل الاجتماعي الإلكترونية الجماعية والفردية محاسن لا تُنكَر، فإنّه لا مندوحة من الإشارة إلى أخطارها الحقيقية المفترضَة. فزيادة على الإدمان المُشار إليه هناك تراجع تأثير السّلط والبطريركية بتراتبيتها المعهودة (السلطة السياسية، رجال الدين، الأسرة/الأب، المدرسة الخ..) وتراجع دور الأولياء والمربّين (المدرسة) في مراقبة الأحداث والقُصَّر (قانونا وشرعا) وتوجيههم في ظلّ الانتشار الكثيف للهواتف واللوحات في أوساط الأطفال والمراهقين. من هنا يأتي توجُّه بعض البلدان إلى منع استعماله في المدارس مع صعوبة هذا المنع ولا واقعيته في بعض الحالات. وما حدث في الجزائر مؤّخّرا من انتحار في أوساط هذه الفئات استجابة للعبة "الحوت الأزرق" الإلكترونية القاتلة هو مثال صارخ لنماذج الأخطار المحتملة. هناك أيضا التوحُّد والعزلة الطوعية الذين صارا سمة غالبة على الأفراد في البيت وفي المقهى/النادي وفي الشارع وأماكن الراحة حتى انك ترى كلّ واحد مختليا بجهازه مركِّزا عينيه على شاشته (هانف ذكي، لاب توب، لوحة إلكترونية الخ) يصرفه عمّا حوله من أجواء بديكوراتها وشخوصها ويربطه بجهات وأفراد لا يعلم طبيعتها غيرُه، أو عوالم سمعية بصرية خاصّة لا يراها ويسمعها إلاّ هو (سينما، شرائط، تسجيلات صوتية، الخ). هناك أيضا سرعة انتشار وتداول المعلومة شائعة كانت أم حقيقية ممّا يؤثِّر على الأمن العام واستقرار المجتمع وسلامته.
والواقع أننا لسنا هنا بصدد تعداد الاستعمالات الممكنة والأخطار المحتملة لوسائل التواصل الاجتماعي والإلكتروني فهناك ما يكفي من الهيئات الرسمية التي تبحث في سُبل مواجهتها الوقاية منها ما أمكن برغم اقتصارها على الجوانب الأمنية سياسيا وأخلاقيا فقط، وبرغم تدخُّلها في خصوصيات الأفراد وحرياتهم بقدر ما نحن ننبِّه إلى تأثيراته السلبية على مستقبل التركيبة الاجتماعية للمجتمع والشعب والأمّة من جهة من حيث التباعد والتنافر والاغتراب "الاجتماعي" المكاني (والزماني ضمن حدود ما) وضياع الوقت وتعطُّل الواجبات وتراجع الإنتاجية فرديا وجماعيا وهجران العادات والتقاليد وتضعضع المجتمع وتقطُّع أواصره ومن ثمّ اندثاره، وعلى الفرد من جهة أخرى بفقدانه صحّته الجسدية وسلامته العقلية وتحوُّل ولاءاته التقليدية الفطرية منها والمكتسبة في مختلف الصُّعُد وتغيُّر قناعاته في مختلف المجالات وانصهاره ضمن بوتقة تفقده كلّ خصوصية وتميُّز، وتفقده فوق كلّ ذلك حريته: ذلك أنّه مُبرمَج ومُوجَّه عن بُعد وعن سابق إصرار وتصميم. 
لكلّ هذا ليس مفاجئا إطلاقا أن نرى شاماث باليهابيتيا- Chamath Palihapitiyaالذي اشتغل مع زوكربرغ منذ 2007 وكان مسؤولا عن نشر شبكة الفيسبوك وتوسيعها، يهجر المؤسّسة وينقِم على المنتدى ويهاجمه مشيرا إلى سلبياته وأخطاره وأهمها في نظره أنّه يقوِّض أُسُسَ سلوكيات الأفراد معترفا بدوره ومسؤوليته في إنتاج وسيلة تُقطِّع النسيج الاجتماعي وتتلفه ومن ثمّ يدعو إلى وقفة تأملية ويمنع أبناءَه من استعماله.
وسائل التواصل الاجتماعي والوسائط الإلكترونية الغربية حصرا –ومعظمها أمريكية ابتكارا ومنشأً- هي نتيجة منطقية للطفرة العلمية والصناعية والتكنولوجية التي عرفها الغرب في هذا العصر وهي في رأينا وسيلة أخرى من وسائل الهيمنة ووجه آخر من وجوه العولمة التي تعمل القِوى الكبرى –أمريكا- خصوصا على فرضها وتعميمها ومن ثمّ جعل قيمها هي السائدة لتنميط سلوكيات الآخرين في مرحلة تالية وتوجيهها في كلِّ المجالات وفق رغباتها ومتطلّباتها، وهي من زاوية أخرى (بالنسبة لنا) أرقى وأكمل صور التبعية والانقياد. لا فرق في ذلك بين ذكر وأنثى أو خاصّة وعامّة أو نخبة ورعاع أو أكابر وبسطاء أو شيوخ وأطفال أو شباب وكهول، فكلُّنا في الفيسبوك وتويتر ونظرائهما شرق.