الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الإرهاب وتلوث الهوية المصرية «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
نعم تلك كانت مشخصات الهوية المصرية والسمات التى مكنتها من الصمود أمام كل العواصف التى حاولت تبديدها أو محوها، ومن ثم سوف يدور حديثنا عن الأسباب الطارئة التى لوثت الثقافة المصرية السائدة وأصابت هوية المصريين بأمراض وأدران لم تعهدها لأنها مناقضة لطبيعتها. 
ولعل أشهر الأدبيات التى تعرضت لهذه المسألة فى العصر الحديث كتاب «شخصية مصر» لـ(جمال حمدان)، وكتاب «الأعمدة السبعة للشخصية المصرية» لـ(ميلاد حنا)، وكلاهما أكد أن مشخصات الهوية المصرية لن تموت وأن ثقافتها التليدة لن تُمحى أو تندثر بل تصاب بالضعف وتمرض شأن سائر الثقافات والحضارات ولكنها أقدر من غيرها على النهوض ثانية شامخة البنيان منتصرة على كل أعدائها مرفوعة الرأس أقوى من الزمن متحدية الهرم. 
أجل أعتقد أن انسحاق الطبقة الوسطى -بكل ما تحمله من عقلانية، ومبادئ أخلاقية، ورؤى إبداعية، وغيرة على الصالح والعام، ووسطية فى العقيدة، ووعى بطبائع الجمهور، وقدرة على التواصل مع العامة، وقوة لتقويم كل قلاع الجور والاستبداد، وشحذ الهمم للبناء، وتنقية الأجواء الثقافية من ملوثاتها، وردع الجانحين، وإنصاف أحرار الفكر، ورعاية المعوذين، وتحقيق أكبر قسط من العدالة وأعظم قدر من محاربة الفساد- هى العلة الرئيسية لما نحن فيه من انحطاط وضعف واجتراء وفوضى وعنف وإرهاب، ذلك فضلا عن تلك المؤامرات التى تُدبر من قبل الأغيار للإيقاع بمصر وطمس هويتها وتزييف عقيدتها، أجل تلك المؤامرات التى لا ينكرها إلا مكابر أو معاند أو مغيَب. 
وعن الأثر السلبى لانسحاق أو غيبة المصلحين أو طبقة النخبة على تردى وانحطاط الثقافات يحدثنا الفيلسوف والمؤرخ الفرنسى جوستاف لوبون، (١٨٤١-١٩٣١)م مبينا أن الرقى يتم فى الأمم على يد نفر قليل من أهل العقول السامية فى العلم والسياسة والأدب والدين والفن، وهم بلا أدنى شك جماعة الصفوة وهم المسئول الأول عن سلامة بنية عقول الأمم ووجدانها وهم الضامن لبقاء السلم الاجتماعى بين الطبقات والحب والألفة بين الأفراد. وقد أكد فى غير موضع من كتابه «سر تطور الأمم» على أن فساد هذه الطبقة أو غيبتها يؤذن ببوار الثقافة وانهيار المجتمع. وقد أكد أدموند يمولان، (١٨٥٢-١٩٠٧)م على ذلك فى كتابه «سر تقدم الإنجليز السكسونيين» وذلك باعتبار أن طبقة النخبة هى المسئول عن رسم الخطط لبناء الأفراد والجماعات (البرامج التربوية، المدارس، الجامعات، الأحزاب، سن القوانين، الرقابة على الآداب والفنون والصحف).
ويضيف فيلسوف الحضارة الإنجليزى أرنولد توينبي، (١٨٨٩-١٩٧٥)م فى نظريته التحدى والاستجابة، أن جنوح العقيدة والتعصب الملى وغيبة المجتهدين المجددين يؤدى حتمًا إلى صعوبة ظهور الطبقة الوسطى المستنيرة أو قادة الرأى، وذلك لأن تكوينها مرهون بتوفر العديد من العوامل أهمها (احترام العلم، حماية الحريات، الاستقرار الاجتماعى والأخلاقي). ويعنى ذلك فى -رأى توينبي- أن سلامة العقيدة والدين السائد من أهم الآليات التى تمكن المصلحين من الزود عن الثقافة وتنقيتها من الملوثات الخارجية، أما إذا أُصيب الدين بتلك الملوثات فلا سبيل لإصلاح المجتمع إلا بالعود إلى سذاجة هذا الدين ونقاءه وصلاحه الذى مكنه من الذود بالثقافة أو الحضارة إلى طريق التقدم والتمدن. ويعنى ذلك أن وظيفة الطبقة الوسطى المستنيرة أو إن شئت قل صفوة المجتمع هى تحدى ومحاربة كل المعوقات والأسباب التى تحول بين مشروعاتهم الإصلاحية وعلى رأسها تجديد الخطاب الدينى من جهة، والقدرة على التواصل مع العوام والرأى العام التابع والقائد معًا وتجييشه لخدمة المشروع الحضارى حتى يستجيب للنهضة العلمية من جهة أخرى، كما يؤكد توينبى أن الحضارات لا تندثر بسبب الغزو الخارجى، بل لضعف وعطب وفساد يصيب بنيتها من الداخل، وعليه فتبدد الثقافات وموتها لا يمكن التآمر عليه من الخارج بل يقوم به عصبة المفسدين وجماعات العنف من الداخل متقنعين بلباس الفضيلة والورع ومرتدين ثوب علماء الدين ورجاله.
والجدير بالإشارة فى هذا السياق أن معظم فقهاء الإسلام والمعنيين من العلماء والفلاسفة بدراسة المجتمع والسياسة الشرعية قد صرحوا بأن فساد المعتقد الدينى لا يحدث إلا فى غيبة أهل الحل والعقد والمجددين من المجتهدين، وأن فساد المجتمع وانحدار الثقافة الإسلامية سوف يصبح فى غيبتهم من الأمور التى لا يستبعد وقوعها فتسود الفوضى والعنف، ويبدد الأمن والسلام، الأمر الذى دفعهم جميعا إلى إيكال أمر المسلمين إلى أهل الشوكة أى الجيش وهو القادر على قمع المفسدين فى الداخل وصد المتآمرين من الخارج.
وللحديث بقية