الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

الفلسفة.. التاريخ.. واللاهوت (١)

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
منظومةُ تعليمٍ عصريةٍ متطورةٍ هى القاعدةُ الأساسيةُ التى ترتكزُ عليها جميعُ الدول المتقدمةِ فى بناءِ حضارتها وتطورها. أما بلادنُا العزيزة فترتكز منذ عقودٍ على منظومة تعليمٍ فاسدةٍ امتدتْ جذورُها لتُقَوِّض كلّ ميراثنا الحضارى الذى بناه الأجدادُ. من ضمن ما علمتنى هذه المنظومةُ الفاسدةُ كراهيتى للتاريخ والفلسفة. أما التاريخُ فلأن منظومتنا البديعة ارتكنتْ على تحفيظنا عددًا لا نهائى من تواريخِ الأحداثِ العالمية والمحلية مع تصوير تاريخنا على أنه التاريخُ السماوىُ الذى لا يشتمل على أخطاءٍ، فجميع قادتنا شرفاء عظماء عباقرة مُخَلِّصِين (اسم فاعل) وبالطبع مُخْلِصين (صِفَة).
ولأننى أجدُ صعوبةً فى الحفظ الميكانيكى فقد كرهتُ التاريخَ. لا أحفظ سوى ما أفهم وما أحب (أحفظُ مئاتِ قصائدِ الشعرِ دونَ عناءٍ ومئاتٍ من نصوص الكتاب المقدس لأننى أحبُ كلاهما بكل قلبى). أما الفلسفةُ فكانت الطامةَ الكبرى. علمنا بعضُ غيرَ البسطاءِ أن الفلسفةَ هى أن تجعلَ الأمورَ أكثرَ تعقيدًا وأقل قابليةٍ للفهم. هكذا مارسَ البعضُ هوايةَ تفريغِ الأفكار من محتوياتها وتعقيدها ليظهروا للناس أنهم العارفون ببواطن الأمور الممسكون أدواتَ التفكير، لذلك فهم أفضلَ وأرقى.
وفى الكنيسةِ، على وجهِ الخصوصِ، كان التعليمُ واضحًا ومباشرًا «الفلسفة ضد الإيمان» تُضْعِفه بل تُعَطِّلُ الطاعةَ للرب. حتى الذين كانوا يُصَلون معنا لنوال المعجزات أو التكلم بألسنة، عندما كانوا يفشلون فى تَقَمّصِ دور الإلوهيةِ الشافيةِ، كانوا يلقون بجاماتِ هذا الفشلِ على ضعفِ إيماننا وعلى انشغالنا بالتفكير ومحاولة فهم الأمور.
أما المكان الوحيد الذى يُعَلِّم الفلسفةَ فى مصر، كلياتُ الآدابِ قسم الفلسفة وعلم النفس؛ فإنهم صنعوا كارثةً، شَوَّهُوا ترجمةَ الفلسفةِ حتى إنها صارتْ مُشَوَّهَةَ المعنى، لكنها أيضًا صارت أكثرَ صعوبةً فى الفهم. بل كان الأكثر سوءًا أن بعض أساتذةِ هذه الكليات العجيبة حاولوا جاهدين إلباس هذه الفلسفاتِ رداءً دينيًا، وهى لم تكن دينية، بل كانت تغوصُ فى أعماقِ فهمِ أبديةِ الكائن الأسمي، الإنسان، والوجود، بعدًا عن محدوديةِ الدينِ وقيود النصِّ.
بعيدًا عن تاريخِ حركاتِ التنويرِ والفلسفةِ عبر التاريخِ، يبدأُ الإنسانُ من فراغٍ، أو هكذا يَظنُ أنه يبدأ. وهكذا تفعلُ بلادنا ومنظومةُ تعليمنا العبقرية. وفَصْلُ التاريخِ عن اللاهوتِ ينتجُ متحفًا دينيًا جميلًا يضمُّ مجموعةً بديعةً من تماثيلِ الأباءِ، بعضَ الأحداث الجميلة، وبعضَ المخطوطات. لكنه لا يصنع كنيسة حيةً تُدِرِكُ دعوتَها من قبل التاريخ واستمراريتها حيةً بروح الإله الحى الفاعلُ وسط شعبه عبر التاريخ.
فلسفةُ التاريخِ أعظمُ مُعَلمٍ، من العبثِ تجاهلها، طمسها، تسطيحها، أو الهروب منها.
الأسبوع المقبل أكتب فى أهم الحركات التنويرية وتأثرها فى العالم والكنيسة وأين نقفُ نحن منها.