السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

"التصوف في المسيحية" طريق الذاهبين إلى الله

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«التصوف» وسيلة نسبية اختلفت طرق أدائها، بينما اتفقت فى أهدافها، فجميعها تسعى للتقرب إلى الله وترك ملذات الحياة والزهد فى مباهج بنى البشر والاكتفاء بحب الله، فكما اشتهرت الصوفية بين المسلمين، فهى أيضًا قائمة بل وأقدم عند المسيحية، حتى أنه كانت ومازالت أيضًا عند البوذيين. 
فى الآونة الأخيرة، انتشرت ظاهرة من الحركات والمدارس المسيحية التى تنادى بفكر التصوف فى المسيحية، والتى أكدت أنها حركة موجودة من قبل الأديان وعاشتها معظم الأديان للاشباع الروحي، ووجدنا الصوفية فى البوذية والهندوسية وعدد من الأديان الوضعية، وبعدها انتقلت الصوفية للدين اليهودى ثم المسيحية وأخيرًا الصوفية الإسلامية، رغم اتفاق الجميع على معانٍ واحدة وأيضًا مظاهر وأساليب شبه متقاربة. ولم تنته الفكرة عند ذلك ولكن بدأت تظهر مجموعات منفردة تنادى بالتصوف للرفعة والرقى والعشق والولع لله سبحانه وتعالي، وبدأ الإعلان عن الصوفية المسيحية بشكل جديد للتقرب إلى الله والاستمتاع به والتنازل عن كل مباهى العالم واعتبروها من الشر فنادوا بالزهد والفقر والخروج الى العزلة مما جعل البوابة تفتح هذا الملف الشائك لدي البعض وتبحث فى التصوف المسيحي.
تحقيق: مايكل عادل
أزهرى أكد أنه وسيلة للتطلع إلى الكمال
«حيدر»: «مذهب» ارتبط عند الجميع بمبادئ الحب والتأمل للوصول للذات الإلهية
التصوُّف المسيحى رحلة تهذيبية، ورحلة نمو وارتقاء، وكلها خبرات وتجلِّيات
«العمومية»
ويقول الشيخ عمرو علوان، إمام وخطيب بالأوقاف، ماجستير بمعهد الدراسات والبحوث الآسيوية قسم مقارنة الأديان، إن مفهوم التصوف فى المسيحية اتسم بالعمومية، وربما يعود ذلك لعدم وجود لغة محددة للمسيحية ارتبط بها الكتاب المقدس يمكن أن تكون مرجعًا يعود إليه الباحثون عند الاختلاف. فالتصوف فى المسيحية ليست له صلة باللغة العربية، واللفظ - كما يرى الباحثون الغربيون - يعبر عنه باللغة الإنكليزية Mysticism وهى مشتقة من كلمة Myein الإغريقية وهى تعنى تلقين مبادئ فن أو موضوع ما، كما تعنى أيضًا يغلق، وتوجد علاقة ارتباط لغوى بين الكلمات الثلاث: Myth وتـعنـى أسطـورة وMysticism وتعنى التصوف وMystery وتعنى الغموض واللغز والسر. وهى جميعًا مشتقة من الفعل اليونانى Musteion والتى تعنى غلق العينين أو الفم. ومن هنا فالكلمات الثلاث مرتبطة بالظلمة Darkness والصمت Silence. ومن هنا، استخدم لفظ «مستيسم» بأكثر من معنى، منها الثيوصوفى، أو التفسير المجازى للكتاب المقدس وغيرها من المعاني. وبالتالى فكل ما هو سر وتجاوز لحدود العقل أو خارق للعادة داخل فى اسم التصوف Mysticism حسب الاستخدام المسيحي. وهذا المعنى اللغوى وثيق الصلة بالمعنى الاصطلاحى كما هو شائع لدى الباحثين الغربيين، فيرى سكوت أن التصوف هو معرفة الأسطورة الروحية، وأن الصوفى فهو المهتم والمعتقد بتلك الأسطورة. ومن التعريفات المستخدمة لديهم: التصوف هو الشعور بالوحدة مع الله، التصوف هو طلب معرفة الله دون وسيط والتكلم معه وجهًا لوجه، التصوف هو النزوع إلى المطلق أبديًا بواسطة الرموز. وهى فى مجملها تعريفات تعبر عن جوهر ومضمون التصوف المسيحى وهو الاتصال باللامتناهى أى الاتحاد بالرب Godhead وذلك من خلال حلول اللاهوت فى الناسوت أى حلول الله فى المسيح، وبه يتم الخلاص، وهو ينسجم تمامًا مع العقيدة المسيحية.
التطلُّع إلى الكمال
والتصوُّف المسيحى هو تطلُّع إلى الكمال، بحسب الشيخ عمرو علوان إمام، والذى يُعد رسالة الدكتوراه حول التصوف فى المسيحية، مؤكدا أنه هو صراخ نحو الأفضل، وتحرُّك من نقطة غير صحيحة فى أعماق الضمير والنفس، والتصوُّف المسيحى رحلة تهذيبية، ورحلة نمو وارتقاء، وكلها خبرات وتجلِّيات؛ كما أن غاية التصوُّف المسيحى أن يتحد الإنسان بالله اتحادًا لا رجعة فيه. وجعل اللاهوت قابلًا قبولًا سهلًا وبتودُّد، أن يتحد به الإنسان دون أن يفقد جوهره البشري، فيظل إنسانًا كما هو ولكن ممتلئًا من الروح القدس. فالتصوُّف المسيحى ليس فناءً وليس فقدانًا للذات فى الله، بل إثباتها ووجودها واتحادها بالله.
ارتباط بنفس المبادئ رغم الاختلاف
ويقول دكتور على حيدر فى كتابه «مدخل لدراسة التصوف»: إن لفظة صوفى أطلقت على الذين يتركون ملذات الحياة ونعيمها، ويخصصون أنفسهم للعمل الصالح، والزهد والتأمل، وهى صفات لا ترتبط حتمًا بالتصوف الإسلامي. فالمذهب الصوفى، على الرغم من اختلاف طريقته بين الديانات المختلفة السماوية منها والأرضية، لكنه ارتبط عند الجميع بمبادئ واحدة، وهى الحب، والتوق للمحبوب والزهد فى متاع الدنيا والتأمل كطريقٍ للوصول للذات الإلهية، وعبر المتصوفة كافة عن تلك الرغبة فى لقاء المحبوب عن طريق الشعر والأدب، والكتابات الخاصة بالمتصوفة، ومذكراتهم، سواء كان هذا التصوف إسلاميًا أم مسيحيًا.
ويقول «ولتر ستيس» فى كتابه التصوف والفلسفة: التجربة الصوفية واحدة عند جميع المتصوفة: إذ تتفق التجارب الصوفية التى رواها: المسيحيون والمسلمون، واليهود والهندوس والبوذيون، وأيضًا المتصوفة الذين لم يتبعوا عقيدة دينية محددة، لكنها تختلف فى تأويل كل متصوف لتجاربه تأويلًا عقليًا مستمدًا من خصائص ثقافية».
التصوف وسيلة للتقرب إلى الله
«المعمدان» و«بولس».. من أوائل الزاهدين فى ملذات الحياة
«القديس بولس»: إن الفضائل الإلهية ثلاث: الإيمان، والمحبة، والرجاء
كان السيد المسيح كثيرًا ما كان ينفرد فى الجبل ليصلي، كما ورد فى إنجيل لوقا: «وكان فى النهار يُعلم فى الهيكل، وفى الليل يخرج ويبيت فى الجبل الذى يدعى جبل الزيتون» (لو ٢١ / ٣٧ )، فكان يُعلم الناس فى الهيكل فى النهار فيأتون له من كل حدب وصوب ويستمعون له، وفى الليل كان يخلو بنفسه، فكانت الخلوة بالنفس والتعبد هى خطواتهم الأولى للوصول إلى الله.
و«الخلوة» فى التصوف المسيحي، هى المبدأ الثانى للرهبنة، وكانت تتم فى الصحارى والجبال والمناطق النائية، فيقول الأنبا يوأنس فى كتابه «مذكرات فى الرهبنة المسيحية» عن الوحدة والاعتزال عن الناس فى المسيحية أنها شعور لازم المسيحيين منذ أيام المسيحية الأولى، فقد شعروا بعزلة عن العالم وأن لسيرة إيليا ويوحنا المعمدان أثر على الفكر المسيحى فى هذا الشأن، فإيليا عاش عند نهر كريت وكانت الغربان تطعمه، أما يوحنا المعمدان فكان فى البراري، وبولس الرسول بعد إيمانه انطلق إلى الصحراء العربية شرقى دمشق، ويستكمل: لذلك كانت الخلوة نافعة جدًا ولازمة لإنعاش الروح، فبقدر ما تتسع الصحارى والجبال، تتسع آفاق النفس والقلب والفكر.
ويقول القديس يوحنا والمعروف باسم الشيخ الروحانى فى مناجاة له مع الله عن الخلوة: «أقطع حديثى مع الناس لأتحدث معك، أغلق بابى لتفتح أنت لى بابك، أحرم نفسى من الشمس الطبيعية لتشرق أنت لي، يا شمس البر والشفاء فى أجنحتها».
ثانيًا «الفقر الاختياري».. فما الذى يفعله التجرد والزهد فى النفس الإنسانية.. التجرد من المظاهر فى الرهبنة المسيحية فهو ليس تابعًا لهوى المرء، لأنه أحد أسس الرهبنة الأساسية، فيعيش الراهب فقيرًا زاهدًا فى متاع الدنيا كما عاش معلمه وسيده المسيح، ولكن هذا التجرد هو التخلى عن الأموال والثروات بإرادة الراغب الكاملة فى ذلك، ولذلك يطلق عليه الفقر الاختياري، وهو أحد أهم تعاليم المسيح حيث قال: «لا تكنزوا لكم كنوزًا فى الأرض، بل اكنزوا لكم كنوزًا فى السماء؛ لأنه حيث يكون كنزك يكون هناك قلبك أيضًا».
وكان الرسول بولس أحد هؤلاء الزاهدين فى المال، فلم ينه فقط عن محبة المال؛ لأنها أصل الشرور، بل طلب من المؤمنين أن يهربوا منها فيقول: «لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منها بشيء، فإن كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما».
«لوازم الحب الإلهي»
أما لوازم الحب الإلهى فى التصوف المسيحي، فيقول عنها القديس بولس: إن الفضائل الإلهية ثلاث: الإيمان، والمحبة، والرجاء.
والإيمان: به نصل للحقيقة والمعرفة، التى یعرف الله بها ذاته الممنوحة للإنسان بنوع جزئي، فيقول المونسینیورغي: «بالإيمان یصبح نور الله نورنا وحكمته حكمتنا وعلمه علمنا وروحه روحنا وحیاته حیاتنا». الإيمان يوسع دائرة معرفتنا بحقيقة الله، وأنه موهبة يجب على المبتدئين أن يجاهدوا كثيرًا ليثبتوا إيمانهم.
أما المحبة: فهى من الله، فبما أنه ملأ الكيان والكمال والصلاح فهو محبوب للغاية. يقول يسوع فى إنجيل متى: «تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك»، والتى يشرحها القديس فرنسيس سالس أن علينا أن نجعل تلك المحبة لله تفوق كل محبة فى أنفسنا فتتفوق على أهوائنا.
أما الرجاء: فهو لازم لبلوغ غاية الخير المرجوة، فهو يجرد النفس من كل الرغبات المادية بتضرع إلى غاية كبرى وهى السعادة الأبدية.
ويعتبر سفر نشيد الإنشاد هو خير ما عبر عن تلك التجربة الصوفية المسيحية الروحانية، كشعر صوفى خالص تمامًا، ككتابات ابن الفارض، وابن عربي، كما أنه تعرض مثلهم لنفس الاتهامات التى لاحقت الشعراء الصوفيين لاستخدامهم الاستعارات الغزلية والخمرية: «اِجْعَلْنِى كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا.»
من هنا نجد التشابه الكبير بين التجربتين الصوفيتين المسيحية والإسلامية، حيث تعتمد الاثنتان على تطهير النفس مما علق بها من الأهواء والشهوات المادية، من أجل الوصول إلى تجلى الله فى النفس، وهو ليس تجليًا ماديًا، وإنما هو تجلٍ أخلاقي فى اتباع تعاليمه.
وفى التصوف أو النسك المسيحى تسعى الروح إلى الوصول إلى درجة الكمال من خلال اجتياز ثلاث مراحل: هى التحرر من الخطيئة بإماتة الجسد عن الشهوات، ومن ثم اكتساب فضائل داخلية عن طريق الصلاة والتمثل بحياة السيد المسيح، وأخيرًا النمو فى محبة الله الكاملة، إلى أن يصل الإنسان وبسكناه إلى الاتحاد معه.