الخميس 16 مايو 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الكاوبوي» يطلق الرصاص على العالم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أشبه بكائن خيالى من أحد كواكب أفلام الخيال العلمي، ظهر الرئيس الأمريكى ترامب خلال دقائق توقيعه على نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترافه بها عاصمة لإسرائيل.. تبعها بعبارات فارغة من أى مضمون عن التزامه بالوصول إلى سلام مقبول لكلا الطرفين، بعدما فرط فى عاصمة أحد الطرفين!. ظاهريا، حالة من الغياب التام عن الواقع.. عبارة عن صورة «أسطورة المال» القادر على فعل أى شىء.. فتح النار على كل الأطراف ومنظمات المجتمع الدولي، والأديان.. حتى على أعلى مرجعية دينية مسيحية، بابا الفاتيكان، ملامح الصورة ظاهريا تقدم رئيس يفتقد لأدنى درجات الوعى السياسى لتداعيات قراراته.. لكن هل تقتصر أبعاد المشهد الكارثية على هذه النظرة البسيطة؟
عربيا.. قرار ترامب أشعل المزيد من النيران فى الشارع العربى الذى ما زالت بعض دوله فى حروب وفوضى، إضافة إلى توحش الأطماع الإيرانية فى دول العراق، اليمن، سوريا، والقادم أخطر. تعزيز رؤية شريحة موجودة وتغذيتها- خصوصا داخل الأرض المحتلة- تكفر بكل حلول التعايش السلمى، ودفع المزيد من الأعداد نحو العنف المشروع دفاعا عن أراضيها. أوراق الضغط فى يد السلطة الفلسطينية قد تكون محدودة، إلا أن الشارع الفلسطينى أثبت فى عدة مواقف سابقة من التاريخ القريب قدرته على التحرك الشعبى الكثيف، سواء بإحياء الانتفاضة، إعلان العصيان الشامل، الإضراب المدنى، حالة عدم الاستقرار وإشعال الاحتجاج الشعبى لن تقتصر آثاره على صاحب الحق، هى حتما ستمتد إلى المحتل، وتلقى بظلالها على السياحة والاقتصاد، تاريخ التنظيمات الإرهابية- بكل مسمياتها- أثبت أنه مجرد «ظاهرة صوتية» أدمنت المتاجرة بالقضية الفلسطينية والأقصى الشريف كورقة توت تخفى عورات وحشيتها.. إذ اقتصر «جهادهم المقدس!» على إراقة دماء المسلمين، دون إطلاق رصاصة على المحتل.. لكن هذه الحقيقة لن تمنع ازدياد وتيرة إرهاب هذه التنظيمات.
عبر التاريخ، الدفاع عن القضية الفلسطينية- على رأسها القدس- سياسيا وعسكريا، قام على ثلاثة أجنحة، مصر.. العراق.. سوريا. لم يبق على الساحة العربية إلا قوة مصر الممثلة فى جيشها الوطنى القادر على تأمين أمن مصر القومى على الحدود الغربية والشمالية، سياسيا، منظومة التحالف العربى التى واكبت ثورة ٣٠ يونيو عززت إلى حد الموقف العربى تجاه قضاياه.. فى الوقت ذاته، كلما بادرت هذه المنظومة إلى القيام بدور جاد لإخماد النيران المشتعلة فى عدة دول عربية، تواجه بعراقيل من أمريكا.. خلافا للقوة العظمى الأخرى الممثلة فى عودة روسيا بقوة وجدية إلى المنطقة منذ أعوام، نجحت مصر مؤخرا فى تحقيق بارقة أمل عبر توحيد الجبهة الفلسطينية ووضع حد للنزاع بين السلطة الفلسطينية وحماس، أملا فى خوض طرف فلسطينى موحد– بدعم عربي- معركته السياسية لتحقيق تسوية فى قضيته العادلة، بعيدا عن كلمات ترامب الجوفاء، أمريكا اختارت الآن التنصل من دور رعاية تحقيق سلام فلسطينى- إسرائيلى، بالتالى لم يبق أمام الطرف العربى غير الاعتماد على دوره فى منظمات المجتمع الدولى لتحقيق أى تقدم فى أزماته وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
القراءة الأعمق لقرار ترامب تحمل عدة مخاطر، أولها: التمهيد لإلغاء المعاهدة العربية «الأرض مقابل السلام» بداية بإلغاء فقرتها الأساسية (القدس عاصمة فلسطين)، وفرض صيغة ترغم الطرف العربى على مزيد من التنازلات، كالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل كشرط لبدء أى مفاوضات سلام، وهو ما صرح به نتنياهو بعد دقائق من قرار ترامب، ثم الاعتراف العربى بيهودية دولة إسرائيل. ثانيًا: قرار ترامب لا يمكن قراءته بعيدا عن المساس بسيادة الأراضى المصرية والأردنية، عن طريق إلقاء ألغام مثل «الكونفيدرالية» أو تبادل أراض أو حتى تحويل الأردن إلى فلسطين بديلة، أو تسكين فلسطينيين فى سيناء!. 
أسلحة الضغط العربية لن تقتصر آثارها السلبية على أمريكا، ستمتد إلى الجانب العربي، صدور قرار من البرلمان المصرى والأردنى بإلغاء معاهدات السلام مع إسرائيل من شأنه إسقاط حق الدولتين فى معونات اقتصادية وعسكرية فرضت هذه المعاهدات على أمريكا تقديمها، المناورات العسكرية المتبادلة «النجم الساطع»، بكل فوائدها المتبادلة بين الجيش المصرى والأمريكى أيضا ارتبطت بهذه المعاهدات. تجميد استثمارات السعودية ودول الخليج فى أمريكا لا يمكن تفعيله دون إحداث زعزعة فى اقتصاد الأطراف الأولى.
صورة «أسطورة المال» لم تشفع فى استمرار شعبية ترامب مع انفجار سلسلة أزمات وفضائح داخلية، وعجزه عن تحقيق طموحات الناخب الأمريكى.. لم يجد ترامب- مدفوعا من صهره جاريد كوشنر- سوى إرضاء اللوبى الصهيونى مضحيا بالعالم، ترامب يتجه للناخب الأمريكى وإكمال مدة ولايته دون إجباره على التنحي، هذا الناخب المعنى فقط بقضاياه الداخلية، يعنيه جدا أمن المواطن الأمريكى فى سائر بلاد العالم، وتقليص وصول العمليات الإرهابية إلى قارته.. والأمر المؤكد أن قرار ترامب من شأنه تهديد هذا الأمن.
حروب ترامب لم تسلم من الارتباك.. فى وقت تصاعدت فيه نبرة عداء الخطاب الأمريكى تجاه إيران، هو يعمد إلى بناء جدار من الجفاء مع المنطقة العربية بدلا من استمالتها كطرف مؤثر- جغرافيا وتاريخيا- فى هذه المعركة السياسية. المعروف عن أمريكا تبنى خطابين، أحدهما داخل غرفها المغلقة، بينما تعلن الآخر- غالبا نقيض الأول- أمام العالم. قرار ترامب تجاوز الازدواجية والكيل بمكيالين إلى إشعال منطقة بأكملها، والمؤكد أن شظايا كثيرة من هذه النيران ستطال أمريكا ومواطنيها.