الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

عندما استرد ميلتون الفردوس المفقود

 الإنجليزي جون ميلتون
الإنجليزي جون ميلتون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
جاءت شهرة الإنجليزي جون ميلتون من خلال قصيدته الأشهر "الفردوس المفقود"، والتي عدّها الكثيرون من أعظم الأعمال الشعرية في اللغة الإنجليزية؛ رغم ذلك كان نصيبه من الحياة الكثير من الإساءة، فإبان الحرب الأهلية الإنجليزية تعرض لعقوبات بعد رجوع الحكم الملكي، وبعدها أصيب بالعمى؛ لكنه كذلك كان محظوظًا بمقابلة عبقري عصره جاليليو، وجمعتهما لوحة الرسام آنيبال جاتي الشهيرة "جاليليو وميلتون".
نشأ ميلتون في إحدى ضواحي العاصمة البريطانية لندن في بيئة يغلب عليها طابع التدين الممتزج بقدر كبير من الالتزام، وكان جده عانى الكثير في عصر الملكة إليزابيث لاعتناقه للمذهب الكاثوليكي، وكان أبوه شغوفًا بالموسيقى، فجاء الابن هو الآخر مُحبًا للموسيقى، التي تركت بصمات لا يمكن تجاهلها على آراء ميلتون، الذي كان يرى أنها وسيلة مهمة لجعل الشعر أكثر فاعلية وتأثيرا؛ كما أنه عاش حياة مليئة بالمآسي المفجعة، ففقد ابنه الأصغر عام 1652، ثم ما لبث أن فقد زوجته في العام نفسه، وكذلك فقد بصره في العام نفسه؛ وبعد أربع سنوات تزوج مرة أخرى وفقد زوجته الثانية وطفلتها الرضيعة، وفي سنة 1663 يخوض ميلتون غمار تجربة جديدة حيث يرتبط بسيدة تدعى اليزابيث ميتشال، ويظل يتخبط في هذه الحياة حتى اختطفه الموت.
كانت الحرية ولع ميلتون الدائم، ودائمًا كان يقول، إن الكفاح من أجل الحرية يتمثل في لغة التمرد، وكان في ذلك متأثرًا بالأفكار السائدة في عصره، حيث كانت حياة الفرد المسيحي عبارة عن صراع تقليدي يتم بين ثنايا النفس البشرية، التي كانت أشبه ما تكون بميدان للقتال، وطرفا المعركة هما المسيح والشيطان وكانا يتصارعان من أجل الفوز بهذه النفسية البشرية؛ فرأى أن العقل الذي منحه الله للإنسان تظهر آثاره في قدرة الإنسان على الاختيار "ومن هنا فإن الفضيلة تعتمد على مدى قدرة الإنسان على تبني اختيارات صحيحة"، كما اهتم في كتاباته بالتأثيرات المختلفة للحرية، وخير دليل على ذلك هو أن الهيكل الرئيسي في قصيدته "الفردوس المفقود" يتمثل في الطغيان، عندما يرى الشيطان أن كلمة الخضوع تعني الاحتقار، فأصبح سجينًا لهذه الفكرة التي أصبحت الشغل الشاغل له، وبذلك أثرت في قراراته، فأصبح ينظر لنفسه أنه شخصية محتقرة، كما كان المجتمع ينظر إليه على أنه قائد مهزوم. 
شارك ميلتون الكثيرين من شعراء عصر النهضة القدرة على استخدام الأساطير الكلاسيكية بطريقة جادة في إطار من الشعر الديني، وكان إحساسه بالكرامة وإيمانه بالجنس البشري بشكل عام منعه من تصوير الكائنات البشرية كديدان أو حتى شرذمة من المخطئين، خلقوا من أجل أن يخطئوا كما فعل آخرون؛ ففي الفردوس المفقود ميلتون كيفية فقدان الإنسان للجنة بسبب طاعته، ثم بعد ذلك يعرض الأسباب التي أدت لسقوط الإنسان، فيروي قصة آدم وحواء مع الشيطان وكيف استطاع أن ينجح في إغوائهما بشتى الطرق من أجل معصية الله، وذلك عن طريق تحريضهما على الأكل من الشجرة التي تعرف بـ"شجرة المعرفة" حسب الكتب المقدسة، أما في قصيدته "ليسداس" فكان يرثي الملك إدوارد الذي تحطمت سفينته ومات غرقا في البحر الأيرلندي وكان عمره لا يتعدى الخامسة والعشرين؛ أما في شمشون المصارع فحكي قصة شمشون الذي وقع في الأسر وتم إيداعه سجن غزة، وبعد ذلك يرد المحاولات المتكررة من أصدقائه وأبيه لإخراجه من السجن، وأثناء فترة سجنه يأمره الحاكم أن يستعرض قوته أمام الشعب في أحد الاحتفالات ولكنه يتمنع في البداية، ثم لا يلبث أن يوافق على ذلك، وتستمر القصة على هذا المنوال إلى أن تنتهي بموت شمشون في مشهد تراجيدي مؤثر.
اعتقد ميلتون أن الفرد الصالح قادر على أن يقوم باتخاذ قرار منطقي وعقلاني في كل لحظة وفي أي موقف يتعرض له في حياته اليومية، ومن الطبيعي أن تكون معظم شخصياته تعكس نجاحًا منقطع النظير في مقاومة الإغراءات بنجاح، والقدرة على تبني اختيار بين اتجاهين متناقضين هما الخير والشر؛ وتأثر إلى حد كبير بالنظرة الدينية للمرأة، فلم يقدم الحب الجسدي كما فعل غيره متناقضًا مع ظروف عصره، فلم يستخدم ألفاظًا مثيرة في تجسيد تأوهات العاشقين المعذبين، أو في التحدث عن العواطف الملتهبة، وذلك بالرغم من أن كثيرا من قصائده تناولت موضوع المرأة؛ ما جعل البعض يُشبهه بالمذهب الأفلاطوني، والذي يبدأ فيه الفرد بالتعلق بشخص ما، فيكتشف أن كل الخير والجمال الموجود على هذه الأرض ما هو إلا انعكاس لنموذج لا يمكن أن يوجد؛ فأكد ميلتون بهذا أنه صاحب مدرسة أدبية في الشعر، ويعده النقاد من بين عظماء الشعر الإنجليزي، لدرجة أنهم وضعوه جنبًا إلى جنب مع وليام شكسبير.