الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الهمجية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
دفعني مشهد قتل الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، ومن قبله العقيد الليبي معمر القذافي، إلى سؤال ربما تقودنا إجابته إلى تشخيص الحالة المرضية التي تعاني منها المجتمعات العربية، والتي أدت إلى رؤية مثل هذا المشهد مرارًا وتكرارًا، فقد شاهدناه في مصر حين فتك المئات بالشيخ حسن شحاتة ومن كانوا معه في زاوية أبو مسلم بالجيزة، قبيل ثورة الثلاثين من يونيو بعدة أيام، وشاهدناه بعد ذلك حين مثل البعض بجثث شهداء قسم كرداسة، وكثيرة هي المشاهد المماثلة التي يمكن استحضارها من التاريخ المعاصر أو القديم، والسؤال هو: كيف لم تتخل شعوبنا عن هذه الهمجية التي تدفع بعضنا إلى القتل ثم السحل والتنكيل والتمثيل بجثة المقتول؟ والجواب ياعزيزي يكمن دون شك بداخل ذلك النفق المظلم المسمى بالجهل، وهذا الجهل قد فرض علينا لحاجة في نفس يعقوب، وإما اختاره البعض برحابة صدر وبشاشة وجه، أما النوع الأول فهو المفروض علينا فهو جهل المتعلم، ذلك أن الساسة في بعض أو كل بلادنا عبر التاريخ أرادوا أن يكون التعليم صوريًا، إيمانًا منهم بأن المتعلم قد يمثل خطرًا عليهم، وهكذا فإن المسموح لك هو أن تقرأ أحرف الأبجدية، وأن تكتبها ثم تحفظ ما تختاره لك وزارة المعارف أو التعليم، وهو ما يضمن لك أن تكون متعلمًا، وإن كنت فى حقيقة الأمر من الجهلاء، وأما الجهل الاختياري فهو ما تشهده بلادنا من عمليات تسريب للأنباء نتيجة الظروف الاقتصادية الطاحنة وبغية استغلال أطفالنا لمساعدة الأهل ماديًا بدفعهم مبكرًا إلى سوق العمل، وهكذا يزداد الجهل في مجتمعاتنا ولا ينقص، وأرض الجهل خصبة لنمو كل الأفكار المتطرفة، فالجاهل ينقل ويصدق دون أن يفكر، وهو يصبح أداة طيعة للفكرة التي آمن بها وسيطرت على عقله بل طمست قدرته على فعل التفكير، وأخطر ما يزرع في أرض الجهل هو ما يتعلق بالدين، لأنه يعرج بالمرء من دائرة البشرية التي تحمل الصواب والخطأ إلى دائرة الإلهية التى تحول الأفكار إلى أوامر سماوية قاطعة، لا نقاش فيها ولا جدال، والقارئ للتاريخ سيدرك أن عبور الإنسان للمرحلة الهمجية قد حدث بعد مرور قرون عديدة، بل إنها لم تنفض غبارها عن الإنسان الأوروبي لا فى القرن السادس عشر الميلادي أبان ما سمي بعصر النهضة، وإن كنا لا نغفل عن حالة الردة التي تمت في النصف الأول من القرن الماضي أثناء الحربين العالميتين، وكذلك لا نغفل عن بعض الحوادث الفردية هناك وإن كانت قليلة للغاية إذا قورنت بما يحدث في بلادنا، وعلينا أن نعترف بأن الإنسان عامة والعربى خاصة لم ينجح حتى الآن في الخروج من همجيته بشكل نهائي، ويبدو ذلك جليًا في حوادث الاغتصاب والقتل الوحشي الذي يصاحبه عملية تمثيل بالجثث، وهذه الحوادث لا نكاد نراها في المجتمعات التي تغير فيها نمط التعليم وأصبح تفاعليًا وليس تلقينيًا، كما تم الاتفاق في هذه المجتمعات على نقد التراث وليس تقديسه، وهذا كله عكس مالدينا، فكتب تراثنا العربي تحتوي على كثير من القصص والأشعار التي تمتدح القتلة وتعتبرهم أبطالًا ظفروا بأعدائهم وقطعوا أعضاءهم وأكلوا أكبادهم، وفي كتب التاريخ نقرأ عن ملوك وخلفاء أتت إليهم رؤوس العباد بعد قطعها فوق أوان من ذهب وجلسوا يعبثون فيها بسيوفهم، وليس تاريخ الأمم والملوك للإمام الطبري ببعيد عنا، وكذلك البداية والنهاية لابن كثير وغيرهما من كتب تاريخنا المجيد، وهل ثمة من ينكر أن شمر بن ذي الجوشن قد فصل رأس الحسين فى موقعة كربلاء وحملها إلى زيد بن معاوية في دمشق ليعلقها على باب الشام لتكون عبرة لمن تسول له نفسه الخروج عليه، وهل نسينا كيف فتك الحجاج بن يوسف بعبد الله بن الزبير وكيف صلبه بعدما جز رأسه وبعثها لعبد الملك بن مروان في الشام؟ وهناك حكايات تروي عن شخصيات لا يقوى قلمي على ذكر أسمائها قد قاموا بهذا الفعل الهمجي الذي تقوم به الآن داعش وغيرها من جماعات الإرهاب، مع إن الاسلام قد نهى تمامًا عن مثل هذه الأفعال ودعانا إلى احترام الموتى، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد روي عنه أنه قال«إياكم والمثلى ولو بالكلب العقور» أي نهى عن التمثيل بالحيوان فما بالنا بالإنسان الذي كرمه الله تعالى ووهبه حق الحياة ليأتي آخر فيسلبه هذا الحق مدعيًا أنه يحمل توكيلًا من السماء، وأنه يقتل كي يدخل الجنة، ويمثل بجثة المقتول كي ينال درجة أعلى في الجنة، معتمدا في ذلك على نصوص بشرية تسمى اجتهادات تحولت مع الأيام إلى ثوابت لا يجوز المساس بها، خاصة عندما وجدت هوا في نفس بعض الحكام الذين أسسوا ملكهم على هذه الاجتهادات والفتاوى التي ضمنت لهم الاستمرار في حكم شعوب جاهلة، وهذا الجهل هو ما دفع أحدهم إلى تصوير نفسه «سيلفي» مع جثث لقتلى في سوريا، ودفع غيره إلى الرقص فوق جثمان علي عبدالله صالح أو القذافي، فهؤلاء جميعًا لم يتخلصوا من همجيتهم بعد، والتي هي ساكنة بداخل الغالبية العظمى من شعوبنا ولا تخرج إلا في حالات الإنفلات الأمني والفوضى، إذ أن الدولة البوليسية تجبرنا أحيانًا على إخفاء همجيتنا خوفًا من العقاب، وأما إرادة الرقي والتحضر ونزع جلباب الهمجية عنا فيحتاج إلى التعليم الحقيقي الذي سبقتنا إليه دول أوروبا، فنتجت عنه شعوبًا تحترم الإنسان.