الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

ابن تيمية بين علي جمعة ومراد وهبة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مجددًا أشعل ابن تيمية الجدل فى مصر والعالم العربى عقب «مقتلة» مسجد الروضة المروعة.. حيث ظهر ذلك الموقف «الاجترارى» و«السماعى» المتكرر الذى يردده كثيرون: ابن تيمية يُهدر دم الصوفية وهو المنظر الأول لتيارات العنف الدينى المعاصرة بداية من الإخوان الإرهابية، وانتهاء بـ«داعش وإخوانه». 
والحقيقة أن غالبية ما قيل مؤخرا أو قبل ذلك فى هذا السياق لا يستحق التعليق باستثناء ما قاله د. على جمعة مفتى الجمهورية السابق فالرجل عالم وفقيه قرأ ووعى نصوص ابن تيمية، ولم يدخل على موقع البحث «جوجل» ليختطف جملة من هنا وجملة من هناك، كما يفعل «زعيط ومعيط ونطاط الحيط». 
لكن قبل التوقف عِند مَا قاله د. على جمعة– الفيديو موجود على فيسبوك ومدته تقريبا ١١ دقيقة- أعتقد أننا نحتاج إلى تسجيل أربع ملاحظات منهجية تجعلنا نتريث قبل الحديث عن علاقة ابن تيمية خصوصا والتراث عموما بجماعات العنف الدينى التى تطل علينا هذه الأيام بوجهها الدموى.
أولا: من الأمور المحسومة اليوم فى الدراسات النقدية أننا من الناحية المعرفية لا نتحدث عن نصوص بل عن تأويلات والنص الواحد قابل لأكثر من تأويل.. وبوضوح أكثر: إذا كان البعض يرى فى ابن تيمية من خلال نصوصه أنه مُشرع للعنف وداعية إلى الدولة الدينية فنفس النصوص جعلت الفرنسى هنرى لاووست يقول: أوشك ابن تيمية أن يكون علمانيا.. واذا كان الكثيرون يقولون إن ابن تيمية إمام من أئمة السلفية فهذا الشيخ الأزهرى الراحل منصور محمد عويس، قرر منذ ستينيات القرن الماضى أن «ابن تيمية ليس سلفيا». 
وكاتب هذه السطور كتب فى ٢٠ نوفمبر ٢٠١٥، فى هذه الصحيفة مقالا بعنوان: ابن تيمية شيعى وليس سلفيا.. معتمدا على نصوص الرجل رغم أن الكثرة تصور الرجل بأنه ضد الشيعة قلبا وقالبا.
ولتتضح خطورة وأهمية التأويل أكثر وأكثر سنضرب مثالا محددا من كتب ابن تيمية وهو موقفه من «المسيحيين»– النصارى كما كان يطلق عليهم وقتها- فالجميع يرى نصوصه غاية فى العنف والتطرف تجاههم لكن العقلاء يعرفون أن هذه النصوص «العنيفة» لا تمثل الرأى الفقهى للرجل بل كانت نصوصا «تعبوية نضالية» كتبت وقت حروب الفرنجة التى عرفت باسم الحروب الصليبية لكن من أراد أن يعرف موقفه الفقهى من «المسيحيين» وغير المسلمين عموماً فليراجع مثلا ما نقله عنه ابن البعلى فى القرن الثامن الهجرى فى كتاب «الاختيارات الفقهية لابن تيمية» سيجد أنه لا يحرم تهنئة المسيحيين بأعيادهم حيث يقول نصا: ويجوز معايدة أهل الذمة وتهنئتهم وتعزيتهم.. هذا الكلام نقيض ما يروجه ياسر برهامى وشيوخ حزب النور وشيوخ الوهابية.
وفى نفس الكتاب أجاز ابن تيمية العقود والمعاملات مع المحاربين، معنى هذا بلغة العصر أنه يُبيح «التطبيع» شرعا، ونسب ذلك إلى أحد قولى الإمام أحمد بن حنبل.
وهنا تظهر «مفارقة مراد وهبة» حيث يتزعم د. مراد، اليوم فكرة التطبيع مع إسرائيل وفى نفس الوقت يرى فى ابن تيمية «الشر الأعظم» لأنه-برأيه- المسئول الأول عن الأصولية المعاصرة فى حين أنه لو أراد أن يبحث عن موقف تراثى يدعم موقفه التطبيعى سيجد ابن تيمية نصيرا وظهيرا!
ثانيا: لو سلمنا بأن نصوص ابن تيمية قطعية فى الدعوة إلى العنف-وهذا مجرد فرض- فالرجل أيضا لا علاقة له بالعنف الحالى من قريب أو من بعيد لأن حل أزمة العنف الدينى المعاصر، فى هذه الحالة تكمن فى الإجابة عن سؤال: لماذا ترك أناس يعيشون فى القرن العشرين والحادى والعشرين نصوصا تراثية متسامحة لابن عربى والحلاج والغزالى وغيرهم وأخذوا بنصوص ابن تيمية داعية العنف بفرض أنه كذلك؟ 
أعتقد أن إجابة هذا السؤال «هنا» وليس «هناك» فهذه أمة قد خلت ونحن الذين نذهب إليهم ونختار وليس العكس، والتبعة والمسئولية تقع على من يختار- المتطرفون- لا على من يقع عليه الاختيار-ابن تيمية-.
ثالثا: يجب أن يكون لدى من يتصدى لقراءة ابن تيمية ملكة فلسفية حتى يصل إلى الموقف الصحيح له فى أى مسألة من خلال تتبع نصوصه الكثيرة، فعلى سبيل المثال يشن ابن تيمية هجوما عنيفا فى كل كتبه ضد فكرة «قدم العالم» التى قال بها الفلاسفة القدامى من اليونان ومن المسلمين لكنه قال بقدم العالم كما لاحظ ذلك سليمان دنيا، فى تعليقه على كتاب أبى حامد الغزالى «تهافت الفلاسفة» حيث أوضح أن ابن تيمية قال بقدم العالم عندما تكلم عن العرش وقال إن العرش قديم بالنوع حادث بالجنس.
رابعا: فى حالات كثيرة كان ابن تيمية ضحية المتطرفين وليس العكس والمثال الشهير لذلك قصة رسالة «قاعدة فى قتال الكفار» والتى رأى خلالها أن الإسلام يعرف فقط جهاد الدفع- دفع العدوان- رافضا فكرة جهاد الطلب- أى الاعتداء على غير المسلمين دون سبب - هذه الرسالة رفضها فقهاء الوهابية وقالوا، إنها مدسوسة عليه ليثبتوا أن ابن تيمية قال بجهاد الطلب رغم أن دراسات عديدة أكدت صحة نسبتها إليه. 
أما فيما يتعلق بما قاله د. على جمعة فيمكن التوقف عند نقطتين وهما:
أولا: الكلام عن أن ابن تيمية كان سيرجع عن أرائه عند مواجهته بها كلام غير دقيق لأن كبار علماء عصره ناظروه بالفعل ولم يرجع، وهل كان هناك من هو أعلم من ابن السبكى خصمه اللدود الذى واجهه ومع ذلك لم يغير ابن تيمية مواقفه. 
ثانيا: استشهاد جمعة، بموقف الشيخ زاهد الكوثرى من ابن تيمية ليس موفقا لأن الشيخ الكوثرى رحمه الله كان مبالغا فى كراهية ابن تيمية بل ويدلس عليه فمثلا نسب إليه أنه قال بفناء الجنة والنار.. هذا غير صحيح فابن تيمية قال فقط بفناء النار لا الجنة فلا وجود لعذاب دائم من وجهة نظره. 
تبقى نقطة أخيرة وهى الأهم فى هذا السياق والمتعلقة بموقف ابن تيمية من التصوف، كنت قبل «مقتلة الروضة» قد انتهيت من قراءة كتاب «الإسلام الحنبلى» لجورج مقدسى والذى ترجمه سعود المولى وراجعه وكتب له مقدمة رصينة د. رضوان السيد، وفى هذا الكتاب تحدث مقدسى عن تصوف ابن تيمية فقال فى صفحة ٩٥: اكتشفنا مؤخرا-أوائل سبعينيات القرن الماضي- وثائق /نصوصا يؤكد ابن تيمية بنفسه خلالها أنه انتمى إلى طريقة عبدالقادر الجيلانى الصوفية قائلا عن نفسه: لبست الخرقة المباركة للشيخ عبدالقادر وبينى وبينه اثنان.. وقال أيضا: لبست خرقة التصوف من طرق جماعة من الشيوخ منهم الشيخ عبدالقادر الجيلانى الذى تعتبر طريقته أعظم الطرق وأشهرها.