الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

في ذكرى رحيله.. عمر الخيام في عالم نجيب محفوظ (ملف)

الكاتب مصطفى بیومى
الكاتب مصطفى بیومى .."عمر الخيام و نجيب محفوظ و ام كلثوم "
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الاختيار المر.. زهد «المعرى» أم لذة «غياث الدين»؟
صراع مؤلف «الرباعيات» من شعراء الجنون العذرى
جناية الصورة النمطية على الشاعر الفيلسوف.. مسئولية من؟

يتوافق الرابع من ديسمبر مع ذكرى رحيل عمر الخيام، غياث الدين أبوالفتوح، العالم الفيلسوف الشاعر، المتبحر فى علوم شتي، ومؤلف «الرباعيات» ذائعة الصيت التى تتغنى أم كلثوم ببعضها، من ترجمة الشاعر الكبير أحمد رامي، وتلحين رياض السنباطي، يتسع له عالم نجيب محفوظ، ويقدم من خلاله شهادة جديرة بالتأمل والتحليل. 
الخيام
فى «قصر الشوق»، يشترك عمر الخيام مع أبى العلاء المعرى فى صناعة عواصف الشك التى تستوطن نفس الشاب المثقف كمال عبدالجواد، خلال مرحلة الانتقال والتحول من الإيمان الموروث الهش إلى شاطئ الشك واللا إرادية: «ثبتت عقيدته أمام عواصف الشك التى أرسلها المعرى والخيام، حتى هوت عليها قبضة العلم الحديدية فكانت القاضية».

التقشف واللذة
«كمال» نفسه، الذى يستبدل العلم بالشاعرين الفيلسوفين، يعود إلى استدعائهما متلازمين، منتصرا للخيام بعد صراع طويل مرهق بين فكرتى التقشف واللذة: «أجل أخيرا بعد فترة من القلق والحيرة بين أبى العلاء والخيام، أو بين التقشف واللذة».
وقد نزع به طبعه إلى مذهب الأول، فإنه وإن بشر بحياة قاسية إلا أنها وافقت ما نشأ عليه من تقاليد، ولكنه لم يدر إلا ونفسه تهفو إلى الغناء، وكأن صوتا خفيا راح يهمس فى أذنه: «لا دين ولا عبادة ولا أمل، فليكن الموت». عند ذاك ناداه الخيام بلسان هذا الصديق فلبى محتفظا بمبادئه السامية رغم هذا، وإن يكن قد وسع من معنى الخير حتى وسع مسرات الحياة جميعا، قائلا لنفسه: «إن الإيمان بالحقيقة والجمال والإنسانية أسمى أنواع الخير».
المعرى والخيام علامتان تشيران إلى توجهين مختلفين، ولا مشترك بينهما إلا الصدق والعمق والجدية من ناحية وتعلق كمال بهما معا دون اختيار نهائى حاسم من ناحية أخري. النشأة تميل به إلى مبايعة رهين المحبسين وما يبشر به من زهد وتقشف، لكن الصراع لا يمكن أن يكون ميسورا محسوما بفعل الغريزة والتشبث بأمل خافت غامض يعوض شتى الخيابات، وعندئذ تقود منظمة عمر الخيام إلى الحياة. قد يستبدل كمال عبدالجواد شكوكا بشكوك، وقد يتوارى تأثير المعرى فى حياته وفكره، لكن الخيام لا يغيب، ذلك أنه ليس شكا فحسب، لكنه شك وحياة أيضا. ينتصر كمال للحياة على الرغم من عذاباته فيها، لأنه يرفض الانتحار: «سعيد من لا يفكر فى الانتحار أو يتمنى الموت، سعيد من تتوهج فى قلبه شعلة الحماس، وخالد من يعمل أو يتهيأ صادقا للعمل، حى من يتأثر الخيام بكتاب وكأس ومعشوق».
إذا كان كمال ينتصر لعمر الخيام على حساب المعري، بعد رحلة صراع مضنية، فإن عثمان بيومى فى «حضرة المحترم» يصل إلى النتيجة نفسها دون عناء ثقافى وتفكير فلسفي، فالأمر عنده بمثابة رد الفعل بعد ضياع حبيبته، يحلم بالتحول من طموح الصعود الوظيفى الذى يشكل جوهر حياته، إلى ممارسة الحياة بلا قيود، والخيام من يسعفه فى الحلم المستحيل: «غادر البيت بتصميم جديد، قال إن الخيام أجمل حكمة من المعرى وأن القلب هو المرشد الوحيد».
لا يتوانى كمال فى تفعيل ما يصل إليه ويعزم عليه، فهو «حر» قادر على الإطاحة بالقيود، ولا يخضع فى قراراته لحسابات مادية معقدة، أما الموظف الطموح عثمان فيقنع بمراودة الحلم الاستثنائى الذى يخبو سريعا بعد ثورة الانفعال.

الحسى والعذرى
الصراع بين المعرى والخيام يدور على أرضية الفلسفة والشك، أما الخلاف بين الخيام وشعراء الجنون العاطفى المتطرف فيتحرك على أرضية الحسى والعذري.
فى مرحلة مبكرة من عمره، ينذر عباس كرم يونس فى «أفراح القبة»، حياته للمسرح، الحياة عنده معركة الروح والمادة، وهى معركة لا بد أن تنتهى بالانتصار النهائى للروح، لكن هذا الإيمان لا يحول دون جهاده لنفسه فى معركة المراهقة: «النزاع الذى لا يهدأ بين السمر والشهوات بين أشعار المجانين والخيام بين تحية العابثة فى الحجرة العلوية وطيفها الزائر للخيال بين الطين وقطرات السحب البيضاء».
على هذا النحو، تتشكل المعادلة فى نفس عباس بين طرفين متنافرين: السمر وأشعار المجانين وطيف تحية وقطرات السحب البيضاء، فى مواجهة الشهوات وعمر الخيام وتحية العابثة والطين، يتحول الخيام من رمز لانتصار الحياة عند كمال، إلى جزء من منظومة الشهوانية والطين، المعادية للمثالية والسمر.
يسود هذا المفهوم، المغلوط عند الكثيرين فى عالم نجيب محفوظ، حتى يتحول إلى صورة نمطية شائعة، يقترن فيها الخيام بالانحلال. فى «فشتمر» تفوح رائحة أسرار الحياة الخاصة لحمادة الحلوانى وتلهج بها الألسنة، يُعرف بالحشاش المنحل، وتتهم شلة الراوى بالمسئولية عن فساده وفساد الشاعر طاهر عبيد، وعندئذ يتساءل إسماعيل قدرى ضاحكا: «أنُلام على خلق شاعر شعبى فريد وعمر خيام حديث؟!».
الحشاش المنحل المستهتر المتهم بالفساد عند الأغلبية المحافظة، هو «عمر خيام» حديث!

نقد وتهكم
إذا كان تشبيه إسماعيل قدرى يمتزج بروح السخرية والدعابة، فإن مصطفى الدهشورى فى «حكايات حارتنا» يقدم نقدا عميقا لسلوك الخيام وفلسفته، وينطلق نقده هذا من مقاييس الحياة الواقعية دون النظر إلى القيم الأخلاقية والدينية، فهو يرد فى سياق ما يستشعره من قلق روحى وحيرة وجودية، يقول لوالد الراوي: لا تخش أن يأخذ الناس الحياة مأخذ العبث إذ إنها أمانة ملقاة علينا ولا مفر من حملها بكل جدية وإلا هلكنا، وإذا أمكن أن يوجد أحيانا أمثال الخيام وأبى نواس فإنما يوجدون لا بفضل فلسفتهم ولكن بفضل الجادين الكادحين الذين يقومون بحمل الأمانة عنهم، ولو اعتنق الجميع مذهب العبث فمن يصنع لهم الخبز والخمر والرياض؟
التشابه الشكلى فى بعض الجوانب بين الخيام وأبى نواس، لا يعنى تماثلهما، لكل منهما مساره المختلف ورؤاه ذات الخصوصية، وما يعنيه الدهشورى هو ضرورة التمييز الصارم بين الأقلية التى تحترف حياة الترف واللهو، والأغلبية الساحقة التى تكدح وتتيح لهؤلاء المغايرين أن يبشروا بما لا يقوى عليه إلا عدد محدود لا يمكن أن يمثل القاعدة العريضة.
ليس فى حياة عمر الخيام ما يتوافق مع الشائع عنه، لكن الصورة النمطية تسود وتهيمن، وتتعد أوجه تأثيرها على شخوص نجيب محفوظ، والأبرز هو أنيس زكى فى «ثرثرة فوق النيل». مدمن لا يفيق، وعمر الخيام لا يفارقه فى غيبوبته المزمنة النابعة من المخدر، ولا شك أنه يعينه على مزيد من الوعي، المغلف بالسخرية والمبالغة الكاريكاتورية، بالواقع المعاصر الذى يبتعد قرونا عن الخيام.
عندما يشتد وطيس المناقشات الفلسفية المليئة بالثرثرة، يلعن أنيس أصدقاءه ويحتمى بالخيام: «عليكم اللعنة، ليس أعدى للكيف من التفكير، وعشرون جوزة كادت تضيع هباء ولا شيء يبدو راسخ الإيمان كشجرة البلح، كما أن إصرار الهاموش يستحق الإعجاب. ولكن إذا فقدت أنات عمر الخيام حرارتها فقل على الراحة السلام.
لأن الزمن يدور برغم أنف أنيس، ولأن أنات الخيام تفقد حرارتها بفعل الثرثرة المزعجة المحيطة به، فإن المدمن المحترف يشرك الخيام فى معاناته، ويحيله إلى بطل رئيسى فى المأساة المروعة التى يعيشها ويتسم بها العصر كله، يتحالف الخراب والعبث ضد الخيام، كما يتحالفان ضد جلسة أنيس ورفاقه: «وعما قليل سيحل الخراب بالمجلس، والخيام الذى كان مدرسة أمسى فندقا للملذات، وقد قال لى فى آخر لقاء إنه لو كان امتد به العمر إلى أيامنا لاشترك فى أحد النوادى الرياضية».
ليس على المسطول حرج، والإسراف فى معانقة الخيال يقود أنيس زكى كثيرا إلى صورة وحوارات مسرفة فى الغرائبية والبناء غير المألوف، يستدعى الشخصية التاريخية ويدمجها فى الواقع ذى التكوين الصادم، فكيف ينجو الخيام من الاختلاط والاضطراب؟

تحولات عاصفة
لم يعد الزمن زمنه، أو لم يعد زمنه وحده، وفى موقف آخر يستدعى أنيس عمر الخيام الهارب من الموت، ويتجاوز الشاعر إلى ذاته المسكونة بالطموح فى هروب مماثل، والعاجزة عنه فى الوقت نفسه: «واختفى الحاضرون فلبث وحده مع الليل المضىء، ورأى فارسا يركض جواده فى الهواء قريبًا من سطح الماء فسأله عن هويته فقال إنه الخيام وإنه نجح أخيرا فى الهروب من الموت. واستيقظ على منظر ساقه المطروحة لصق الصينية، طويلة بارزة العظام، باهتة اللون فى الضوء الأزرق.
كلاهما طامح فى الهروب من الموت، وكلاهما عاجز، إذا كان طموح الخيام إيجابيا، فإن طموح أنيس -الحى الميت- يبدو عبثيا، لأنه يتحول إلى أشلاء غريبة مبعثرة محسوبة على الحياة.
يمارس الخيام تأثيرا لافتا على أنيس الهارب من الحياة والهارب إليها بالمخدر، وثمة تأثير آخر مبتور على الباحث عن سر الحياة وألغاز الوجود عبر تحضير الأرواح فى قصة «النوم» مجموعة «تحت المظلة».
لا يطاوعه الخيام ويفلت منه: «وخفق قلبه وانتعش بروح الغزل وأراد أن يستشهد ببيت من عمر الخيام ولكن هيهات».
هيهات: لأن الاتجاه مختلف، والأسئلة متباينة، والهموم غير الهموم!.